بوعزة ساهل
أوراق تنويرية
مجموعة مقالات فكرية
مقدمة
صدر عن دار الطليعة مؤلف بعنوان "معضلة الأصولية الإسلامية " في طبعتها الثانية لسنة 2008 للدكتور هاشم صالح، بشراكة مع رابطة العقلانيين العرب التي تسعى إلى نشر الفكر العقلاني النقدي في الوطن العربي .
ويهدي الكاتب هذا المجهود الفكري إلى كل ضحايا الأصولية الظلامية والتعصب الديني في العالم الإسلامي. والدكتور هاشم معروف خاصة بترجمته الممتازة للمرحوم محمد أركون . كانت آخر ترجمة له بعد رحيله كتاب "نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية" .
أما الكتاب فهو عبارة عن مجموعة من المقالات الفكرية والنقدية تربطها خيط واحد هو معضلة الأصولية الإسلامية والصراع بينها وبين الحضارة الحديثة ، يعرض فيها الكاتب مجموعة من الأطروحات لمفكرين وباحثين عرب ومستشرقين ، لهم صيت عالمي ، مهتمين بالأصولية الإسلامية .
يقول هاشم في مقدمة الكتاب : هذا الكتاب لي وليس لي في آن معا، وانه لي ضمن مقياس أني أنا الذي اخترت كتبه و عرضتها وناقشتها، واختلفت معها أو اتفقت. ولكن ليس لي ضمن مقياس أني حاولت بقدر المستطاع أن أفرض بشكل حيادي وموضوعي عشرات الكتب التي ألفها آخرون غيري ، وجميعها تدور بشكل أو بآخر حول مسألة "الأصولية الإسلامية " والصراع بينها وبين الحضارة الحديثة ككل . وقد أصبحت هذه المسألة الشغل الشاغل للمفكرين العرب والأجانب في شتى أنحاء الأرض كما هو معروف.
أما الكتب المعروضة هنا فجميعها مكتوبة بالفرنسية ، ماعدا كتابين : الأول لمحمد عبد المطلب الهوني ، والثاني لكمال عبد اللطيف .
فالكتب جميعها تناقش مسألة الأصولية الإسلامية من عدة جوانب، وعدة زوايا مختلفة لتفكيك الظاهرة الأصولية الإسلامية من جذورها.
طبعا، يختلف المنظور النقدي و التفكيكي للظاهرة من مؤلف إلى آخر . فالبعض يركز على العوامل السياسية والاقتصادية أو الاجتماعية في ظهور الظاهرة ، والبعض الآخر يركز على العوامل العقائدية المحضة ، وبالتالي هناك عدة إضاءات مسلطة على ظاهرة الأصولية الإسلامية المتعصبة لا إضاءة واحدة .
فالكتاب الذي بين أيدينا يتناول عدة أطروحات لعشرات الكتب تدخل في إطار فهم الوضع المظلم الذي تشكل تهديدا للحضارة الإنسانية بجميع صورها ، كما يدخل في إطار مشروع أوسع ، مشروع تنويري خاص بالعالم العربي والإسلامي ، لكن لا يمكن فهمه التنوير ى الذي يطمح إليه الكاتب إلا بفهم التنوير بمعناه الواسع . نقصد التنوير الأوربي والصراع الذي أخذه مع الكنيسة لعدة قرون .
إن ما يتفق عليه جل المفكرين الذين استعرض هاشم صالح كتبهم هو أن ما ينقص العالم الإسلامي بالضبط هو المرور بالمرحلة التنويرية كما حصل في أوربا في القرن الثامن عشر .
فالمقالات التي سنقدمها للقارئ تعتبر خلاصا ت لأهم ما جاء في كتاب الدكتور هاشم صالح التي سنقدمها بدورنا للقارئ العربي على شكل أوراق بشكل مبسط ومختزل لفهم واقع معضلة الأصولية الإسلامية التي تنامت بعد 11 سبتمبر وضربة مدريد وضربة الدار البيضاء .
عنونا هذه المقالات ب "أوراق تنويرية " لأن لها طابع تنويري، تنوير العقل العربي بمفاهيم وأطروحات تزعزع يقينيان القارئ العربي غير المنفتح ،الذي يعتبر الفرقة المنتمية إليها هي وحدها "الناجية " .
هدفنا بالدرجة الأولي من هذه الأوراق هو فهم هذه المعضلة الأصولية أولا ، والى محاولة تفكيك ونقد مواقف وأرثوذكسيات فقهاء القرون الوسطى ، تلك المواقف التي يجب تجديدها أو القطع معها إلى حد لا عودة . يصل عدد الأوراق إلى 20 ورقة تنويرية في مجملها. وقد سبق أن نشرت هذه الأوراق على شكل سلسلة خلال شهر رمضان (غشت ) لسنة 2011 بجريدة الاتحاد الاشتراكي التي نشكر من خلالها السادة الأساتذة الساهرين بدورهم على نشر الفكر التقدمي والتنويري بالجريدة وتشجيع المبادرات النقدية الهادفة .فهم الذين شجعونا على نشر هذه الأوراق الهادفة على شكل كتاب ، فإليهم منا ألف تحية .
الورقة رقم 1 محمد الهوني : المأزق العربي في مواجهة الإستراتيجية الأمريكية
طرح محمد عبد المطلب الهوني في كتابه "المأزق العربي في مواجهة الإستراتيجية الأمريكية" الصادر بدمشق بدار بترا لسنة 2004 أربع إشكالات أساسية وهي : الإشكالية الأولى يطرح فيها الموقف الانتهازي أو الميكيافلي للسياسة الأمريكية طيلة الحرب الباردة . والثانية تخص رد الفعل العربي عليها ومدى ملاءمته أو عدم ملاءمته وبخاصة بعد ضربة 11 سبتمبر . والثالثة والتي تستحوذ على اهتمام الكاتب ، فتتمثل في النقد الراديكالي للأصولية العربية - الإسلامية . أما الإشكالية الرابعة والأخيرة فهي تتمثل في الدفاع عن الحضارة الديمقراطية - الليبرالية الحديثة- باعتبارها حضارة كونية يتعين على العرب أن يتفاعلوا معها إن أرادوا الخروج من المأزق الذي يتخبطون فيه اليوم .
يقول هاشم صالح : إن عبد المطلب يبدو أنه متألم كثيرا من موقف السياسة الأمريكية طيلة الحرب الباردة . فلم تكن المبادئ هي التي تتحكم بها، وإنما المصالح والأهداف الشخصية (ص12).
بما أن الهدف الرئيسي كان هو الانتصار على الشيوعيين وسحقهم ، فان جميع الأسلحة والأدوات أصبحت مباحة بما فيها دعم أنظمة منغلقة إلى أقصى الحدود لأن الغاية تبرر الوسيلة لدرجة أنها تحالفت مع بن لادن لضرب الخطر الشيوعي (ص13) ، لكن ليس عبد المطلب وحده الذي يستغرب من هذا الموقف ويستنكره، بل كذلك مثقفون من أمريكا وأوربا ، اعتبروا أن ذلك الموقف كان موقفا ميكيافليي وبمثابة "الخطيئة التاريخية " التي لا تغفر . ولم يقفوا على هذه الحقيقة إلا بعد 11 سبتمبر. يؤلم الهوني هو أن أمريكا بلد الحضارة والرقي خانت مبادئها في الخارج من أجل خدمة مصالح مادية وسياسية عاجلة (ص14 ).
إذا كان الإيديولوجيون العرب ( أصحاب الإيديولوجية العربية القديمة ) يعتقدون أن العداء مع أمريكا والغرب أبدي وسرمدي، لا ينتهي إلا لكي يبتدئ من جديد ، فان المفكرين الجدد في العالم العربي يعتقدون أن هذا العداء انتهى نصف نهاية بعد ضربة 11سبتمبر ، وسوف يفقد كل مبرراته بعد أن تحل القضية الفلسطينية (14) .
يقول الهوني ما يلي : من أهم معوقات الديمقراطية في الوطن العربي، سوء فهم المعتقد . فالدين في حد ذاته ليس عائقا ، ليس عائقا من عوائق التحضر ، ولكنه يصبح أكبر عائق عندما يستخدم استخداما إيديولوجيا وسياسيا (14). وهذا ما هو حاصل اليوم.ومن هنا يشن الهوني هجومه على الإسلاميين الذين يفهمونه على طريقة القرون الوسطى، ويحاولون تطبيق مبادئ القرن السابع الميلادي على مجتمعات القرن الواحد والعشرين (14) ، فهو يدعو إلى قطيعة ابستمولوجية مع لاهوت القرون الوسطى .
يصل الأمر بالهوني إلى حد القول بحتمية الانتقال من التشريعات الإسلامية إلى التشريعات الوضعية . لماذا ؟ لان التشريعات الإسلامية لم تعد صالحة للتطبيق في عصرنا هذا (15) . فالقطيعة التي أشرنا إليها هي التي اجتازها الغرب بنجاح ، عندما انتقلت من الشريعة اليهودية والمسيحية إلى القوانين الوضعية الناتجة عن فلسفة التنوير التي مازالت المجتمعات العربية والإسلامية تقف أمامها .
نحن في حاجة إلى إصلاح ديني بعد نقده وتفكيك الآليات والميكانزمات التي مازالت تتحكم في الفرد والمجتمع عبر مواقف وأرثوذكسيات فقهاء القرون الوسطى . نحن في حاجة إلى فلسفة تنويرية للقطع مع سلوكيات بن لادن والظواهري والزرقاوي وغيرهم من الظلاميين . نحن في حاجة إلى عقل نقدي تفكيكي تنويري انقلابي لتفكيك تلك الانغلاقات اللاهوتية المتحجرة و التي تسيطر على وعي المواطن العربي والإسلامي والتي تعتبر الحقائق اللاهوتية مطلقة ونهائية لا يمكن مناقشتها .
هذا هو المشروع التنويري الذي ساهم فيه عبد المطلب مع نخبة من المثقفين العرب لتجديد الفكر العربي والإسلامي عن طريق ترجمه المؤلفات التي تساهم في تنوير المواطن ، كما وقف محمد أركون و حميد أبو زيد ومحمد الشرفي وغيرهم لمواصلة نقل الفكر التنويري والعلمي بما فيه المناهج التاريخية لإعادة قراءة النص المقدس من جديد .
الورقة رقم 2 محمد شريف فرجاني : الدين والسياسة في الساحة الإسلامية
يطرح محمد شريف فرجاني عدة أسئلة في كتابه "الدين والسياسة في الساحة الإسلامية " ، من بينها : هل حقا الإسلام دين عنف؟ هل حقا انه يختلف جذريا عن باقي الأديان كما يزعم برنارد لويس وغيره من المستشرقين والصحفيين الغربيين ؟
هل حقا يرفض التفريق بين الدين والدنيا أي بين الروحي والزمني على عكس المسيحية التي فرقت بينهما؟ بمعنى هل هو في جوهره دين مضاد للعلمانية ؟ هل هو دين التخلف والجهل والتعصب؟
أمام هذه الأسئلة، يخوض محمد شريف المعركة على جبهتين اثنتين : جبهة أصوليي الاستشراق وعلى رأسهم برنارد لويس ، وجبهة الأصوليين الإسلاميين من كل الأنواع والأصناف.
فالإسلاميون يطرحون إشكالية عدم الفصل بين الدين والدنيا على عكس المسيحية . وهو نفس الكلام الذي يقوله برنارد لويس بفارق و احد هو أن لويس يعتبر علاقة الدين بالدنيا علاقة اختلاف حضاري، في حين أن الإسلاميين يعتبرونه علامة تفوق الإسلام على الأديان الأخرى (22).
فالباحث كرس كل القسم الأول من الكتاب لتفكيك هذه الأطروحة ونقضها من أساسها
لكثرة هيمنتها على الأوساط الثقافية في الشرق والغرب ، وكادت توهم أنها حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش. فالدين الإسلامي في رأي فقهاء القرون الوسطى لا يقبل إطلاقا التمييز بين الدين والدنيا ، ناهيك عن الفصل بينهما (22) بخلاف المسيحية واليهودية.
لقد أغلق فقهاء ذلك العصر جميع النوافذ والأبواب أمام كل نقاش في الموضوع ، وها نحن نؤدي الضريبة لعدة قرون . وأمام هذه المواقف المتصلبة ،وهذه الأرثوذكسيات ما الحل؟ ما العمل ؟
فبحسب المؤلف أن الحل يكمن في النظر إلى التاريخ المسيحي، فالمسيحية الأوربية بدورها كانت مهيمنة عليها الكنيسة مثلها مثل الإسلام ، لا تقبل بالعلمانية و لا تقبل الفصل بين الكنيسة عن الدولة ( بين الدين والسياسة ) إلا بعد سلسلة من المعارك الفكرية والسياسية . فلا خصوصية للإسلام فيما يخص هذا الجانب. فأطروحة برنارد لويس والإخوان المسلمين تسقط من تلقاء نفسها . وبالتالي إن سبب تخلف المجتمع العربي والإسلامي لا يعود إلى الدين في جوهره ، وإنما يعود إلى الفهم الخاطئ للدين ، الفهم ألظلامي الأرثوذكسي المنغلق (22).
فمنذ القرون الأولى للمسيحية الرومانية والكنيسة تحاول هيمنتها على الدولة وعلى سياستها . وبعد الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر أزاحت هذه الأخيرة رجال الدين وتفككت أحكامهم المسبقة . هكذا ظلت الكنيسة تقاوم حركة التقدم والتطور لمدة مائة عام إضافية، أي إلى حتى نهاية القرن التاسع عشر، إلى أن تخلت عن معاندتها لرياح التغيير .
تلك هي المعركة التي يأخذها محمد شريف الفرجاني حاليا وآخرون المدافعين عن الفصل بين الدين والدنيا ، بين الوحيي والزمني ،.بين الدين والسياسة، ضدا على المدافعين عن عدم الفصل لغرض في نفس يعقوب .
وفي مسالة أخرى لها علاقة بالموضوع، هل الإسلام دين عنف في جوهره ؟ هل يختلف عن اليهودية والمسيحية من هذه الناحية؟ بمعنى هل القرآن مسئول عن أعمال العنف و التفجيرات التي ترتكبها الحركات الأصولية المتطرفة؟
فالكاتب وبدون لف ودوران يخلص من خلال دراسته أن القرآن مثله مثل سائر النصوص الدينية الأخرى ، فهو ذو موقف مزدوج من قضية العنف ، والتعصب. والسبب هو أنه مرتبط بالظروف التاريخية التي عاشها النبي والمسلمون الأوائل ( 24). وهي ظروف كانت مليئة بالتحولات، وبالتحديات، ومحاطة بالخصوم والأعداء. ولكن روح الإسلام تتغلب في القرآن عن روح العنف في نهاية المطا ف .
فبعد أن تناول الكاتب دراسة العلاقة بين الدين والسياسة في العصر التأسيسي الأول ، نجده يتنقل في الفصول الأخيرة من الكتاب إلى دراسة نفس الموضوع في العصر الحديث. وهنا يتعرض إلى رؤية الإخوان المسلمين وبقية الحركات الأصولية الأخرى[I1] أي دراسة رؤيتهم للعلاقة بين الدين والساسة ومدى تشابهها مع الفترة التأسيسية الأولى آو اختلافها معا (27). وقبل ذلك توقف الكاتب عند أوجه التشابه بين الإسلام السياسي والمسيحية السياسية ليخرج الإسلام من الخصوصية التي يسجنه فيها بعض المستشرقين . فهو يرى أن الإسلام السياسي ولد كرد فعل عن الحداثة العلمية والفلسفية مثله مثل المسيحية السياسية .
فالقطيعة الكبرى التي أحدثتها العصور الحديثة مع اللاهوتيين من كل الأديان ودفعتهم إلى القيام برد عنيف عليها (28) هي القطيعة التي حصلت في أوربا في القرن 18عشر دفعت بالناس أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم بدون وسائط ، وان النظام السياسي الأوربي يستمد مشروعيته من الشعب لا من السماء .(28)، وهكذا نزلت المشروعية من السماء إلى الأرض ، وأصبحت أفقية بعد أن كانت عمودية وشلوقية .وهكذا سقط الحكم الثيوقراطي (اللاهوتي ) في أوربا ، وحل محله الحكم الديمقراطي الحديث، وبالتالي ظهرت الأصولية المسيحية المتشددة كرد فعل عليها . وهذا ما حصل في العالم الإسلامي لاحقا عندما انتقلت الأفكار الأوربية التنويرية إليه (28) .
لكن يبدو حسب قول الكاتب أن فشل الحركات الأصولية في الوصول إلى الحكم والى السلطة عن طريق العنف والاغتيالات والتفجيرات ، دفعها إلى تغيير مواقفها من الديمقراطية . فلم تعد هرطقة غربية، أو كفرا لبعض قادتها على الأقل. (28).
أما آخر نقطة عالجها الكاتب هي مسالة حرية الضمير والمعتقد في الإسلام . هل يسمح الإسلام بحرية الاعتقاد أم لا يسمح ؟
فتارة نجد آيات قرآنية تؤيد حرية الاعتقاد ( صورة آل عمران -الآية 3. "نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأزل التوراة والإنجيل" (39). كما نجد آيات قرآنية ضد حرية الاعتقاد- " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين" أل عمران – الآية 85.
هناك آيات تمدح بني إسرائيل، وهناك آيات تذم اليهود والنصارى. فالمواقف في القرآن متقلبة ومتباينة حسب الظروف التاريخية التي مر بها الإسلام . فهكذا إذا كنت من أتباع بن لادن والظواهري والزرقاوي، اخترت أشد الآيات عنفا لتجييش الشارع . وإذا كنت من جماعة المسلمين المعتدلين ، اخترت الآيات الأخرى لدعم موقفك (40).
ألآ ن ، ما هو الحل أمام هذا الخطاب المزدوج للنصوص المقدسة؟
الحل الذي يقترحه الكاتب هو الاعتراف بحرية الضمير والمعتقد وهي إحدى فتوحات الحداثة الفلسفية الأوربية . فلا ينبغي البحث عنها في العصور الوسطى السابقة عن هذا العهد . فينبغي القطع مع الماضي إذا ما أردنا أن نتعايش مع الآخرين . وهذا ما فعلته المسيحية الأوربية عندما أعلنت في التصريح الختامي لمجمعها الكنسي الشهير باسم المجمع الكنسي الثاني ( 1962_1965) بأنها تحترم عقائد المسمين ، وتطوي صفحة الماضي . تلك هي الأفكار التنويرية التي يدافع عنها الكاتب .
الورقة رقم 3 محمد أركون : نزعة الأنسنة في الإسلام
لماذا اختفت النزعة الإنسانية ( اللأنسنة) من ساحة الفكر العربي الإسلامي؟
هذا هو السؤال المركزي الذي يطرحه محمد أركون في كتابه "النزعة الأنسنة في الإسلام " .
يعتبر أركون أن النزعة الإنسانية كانت موجودة بين القرنين الثامن والحادي عشر للميلاد في الحضارة العربية الإسلامية الكلاسيكية نتيجة تفاعل التراث الإسلامي والفلسفة اليونانية ( مرحلة الانفتاح ). ثم جمدت بعد أن دخلنا عصر التكرار والاجترار، أو ما يدعي بعصر الانحطاط.، وجاء اختفاؤها تزامنا مع موت الفلسفة الرشدية.
الأطروحة التي يدافع عنها أركون في كتابه المذكور هو أن النزعة الإنسانية كانت موجودة قبل أوربا ، على عكس ما يتوهم المستشرقون التي لم تظهر عندهم إلا في القرنين 15 و16 أي في عصر النهضة .
فالمستشرقون يعتقدون بأن النزعة الإنسانية لم تظهر إلا في الحضارة الأوربية ، أما قبل ذلك ، فكانت البشرية تعيش ظلمات العصور الوسطى التي تحتقر الإنسان ، وتعتبر أنه لا أهمية له في الوجود . فالحياة الحقيقية عندهم هي الحياة الأخرى وليس هذه الحياة الدنيا (43).
من بين الذين جسدوا الموقف الإنساني المنفتح عن العلوم الدنيوية والعقلانية أدباء فلاسفة ومتكلمون خصوصا المعتزلة ، و الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وسليمان السجستاني المنطقي وأبو حيان التوحيدي ومسكويه والنظام والعلاف والقائمة طويلة . هؤلاء مزجوا بين العلوم الأصيلة والعلوم العقلية . هؤلاء هم أصحاب النزعة الإنسانية التي يدافع عنها أركون في أطروحته ، والذين ظهروا قبل عصر السلاجقة ( عصر أبي حامد الغزالي ) .
نقلت تلك الحضارة العلمية والفلسفية سواء في المشرق أو في المغرب والأندلس إلى أوربا بعد موت الفلسفة بسبب هجوم الغزالي عليها ، وبالتالي ماتت تلك النزعة الإنسانية والعقلانية ،وعم الظلام في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه طيلة تسعة قرون، أي حتى فجر النهضة الحديثة والاتصال بأوربا في القرن التاسع عشر بسبب حملة نابليون ومحمد علي ورفاعة الطنطاوي (45).
بالنسبة إلى النزعة الإنسانية وفي ما معناها ، يميز أركون بين تيارين من الفكر ، فكر العصور الوسطى، الأول يتمثل بالنزعة الإنسانية المتمركزة حول الله أي حول المركزية اللاهوتية ، والثاني يتمثل بالنزعة الإنسانية المتمركزة حول الإنسان ويسميها أركون بالمركزية الإنسانية(45).
النزعة الأولى تجسدت لدى كبار اللاهوتيين المسلمين أو المسيحيين أو اليهود ، وكانت مرجعيتها "النصوص المقدسة " في الأديان الثلاثة ، والثانية تجسدت لدى الفلاسفة العرب أو سواهم وكانت مرجعيتها أفلاطون وأرسطو .
لكن هل الثانية قطعت مع الأولى ؟ أليس الفارابي وابن سينا وابن رشد كانوا لاهوتيين ؟
يعترف أركون بأن عصر التنوير وحده الذي تجرأ على إحداث قطيعة مع اللاهوت وحقق للفلسفة استقلاليتها بعد أن كانت خادمة للاهوت (46). السؤال هل يمكن للعرب والمسلمين القطع مع تلك النزعة اللاهوتية التي تجسدت في اللاهوتيين المسلمين الذين ظهروا في ما بين القرنين الثامن والحادي عشر للميلاد وهم لم ينتجوا لا علما و لا فلسفة ؟
فالقطيعة لها شروط تاريخية ، فلا بد من عقل نقدي تفكيكي ، انقلابي فى المجتمعات العربية والإسلامية قادر على انتقاله من مرحلة الجمود إلى مرحلة الانفتاح والتنوير. تلك هي بعض شروط القطيعة التي كان يدافع عنها محمد أركون رحمه الله .
الورقة رقم 4 عبده الأنصاري : إصلاح الإسلام
في كتابه الجديد " إصلاح الإسلام" : مدخل إلى المناقشات المعاصرة، يستعرض الدكتور عبده الأنصاري نظريات ما لا يقل عن ستة عشر باحثا ومفكرا ، يحللها و إعطاء رأيه فيها .
يقول هاشم صالح : من الواضح أن تأليف كتاب كهذا باللغة الفرنسية يساعد على إعطاء فكرة أخرى عن العالم العربي والإسلامي بشكل عام . فوسائل الإعلام الغربية لا تتحدث إلا عن التيار المتطرف ، وهذا شيء خطير لأنه قد يوهم الجمهور الفرنسي والأوربي وحتى الأمريكي بأن جميع المسلمين ينتمون إلى هذا التيار . وبالتالي فغرض أفكار المثقفين العرب والمسلمين المحدثين النقديين قد يعدل من هذه الصورة أو يساهم في تغييرها إلى حد ما (50).
من بين الأسئلة التي يطرحها الأنصاري منذ بداية الكتاب هي : هل يمكننا أن نقدم قراءات أو تفسيرات حديثة للقرآن ؟ بأي شيء تتمثل قراءة الإسلام وخصوصيته؟ هل يمكن للإسلام أن يتصالح مع الحداثة ؟ أي مع العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان؟
هل يمكن للإسلام أن يتعرض لإصلاح ديني ؟ كيف ؟ وهي نفس الأسئلة التي تشغل بال المثقفين العرب والمسلمين حاليا وكذلك مثقفو فرنسا وأوربا وأمريكا .
فالأنصاري يقدم في كتابه خلاصات واضحة إلى الجمهور الفرنسي والأوربي ليعرفوا أن هناك أصوليون متطرفون في ساحة غير المسلمين (51).
من بين المثقفين الذين اشتغل عليهم الأنصاري المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي الذي يعتبر اليوم ممثل طليعة التيار النقدي والتجديدي في الفكر الإسلامي المعاصر. وتكمن أهميته في أنه عرف كيف ينقد من الداخل الانغلاقات المزمنة والعقائد المحنطة التي لم تعد تناسب العصر . وإنما أصبحت حجرة عثرة في وجه التقدم وحل محلها أفكار تنويرية (52).
أما شيخ المجددين محمد ألطالبي الذي يرفض كل أنواع التعصب والانغلاق يقول عنه الأنصاري : لو انتصر فكره و-فكر التيار العقلاني ، لانحلت مشكلة الأصولية (52).
فالطالبي يحاول الجمع بين الحداثة الفكرية التنويرية و الإيمان العميق ، مما يثير دهشة الجهتين أي متطرفي الإيمان الأرثوذكسي ومتطرفي التنوير الذين يصلون إلى حد الإلحاد (53).
أما محمد الشرفي الذي يعتب رمز أعلام التنوير العربي، فهو يدين كل تعصب وسلوكيات الحركات المتطرفة ، كما يرفض أي حكومة دينية . يقول في هذا الموضوع بالضبط فيما معناه : إن التجربة التاريخية للبشرية أثبتت أن الحكومة الدينية لا يمكن أن تكون ديمقراطية، وأنه إذا كانت كل ديكتاتورية مدانة من حيث المبدأ ،فان الديكتاتورية الدينية هي الأسوأ والأكثر إرهابا .لماذا ؟ لأنها لا تريد فقط الحكم بالعلاقات السياسية والاجتماعية داخل المجتمع وإنما أيضا بالمواقف الفردية ، إنها تريد أن تتحكم ليس فقط بالسلوكيات، بل بالضمائر والعقول أيضا (53).
ولهذا السبب ، ساهم محمد الشرفي في تحديث نظام التعليم الديني في تونس عندما كان وزيرا للتربية والتعليم.ة فالتغيير يبدأ من المدرسة أولا ، فلا يجوز حشو أذهان أطفالنا حشوا باليقينيات القروسطية (54) التي عفا عنها الزمن . فالإسلام هو دين العقل و التفكير، لا دين الاستسلام للخرافات والشعوذات والتعصب الأعمى .
و نفس الشيء يطرحه التنويري والعقلاني التونسي عياض بن عاشور أستاذ القانون . يدعو بن عاشور إلى تحديث التشريع والقانون في العالم العربي ، لكنه يعرف أن ذلك لم يتم قبل تحديث الفكر ككل (54) . فهناك هوة سحيقة بين المفاهيم التراثية وبين الحداثة الفلسفية و حقوق الإنسان .
أما عزيز العظمة فهو يعتبر من منارات الفكر في سوريا وفي الوطن العربي . فهو لا متطرفا ولا أصوليا في تنويره ، انه مثقف عربي يريد إدخال أمته في الحداثة العقلانية الكونية ، فهو يدين النزعة التصالحية أو التلفيقية لبعض المثقفتين العرب الذين يستسلمون أمام المحافظين والمتزمتين (54).
الورقة رقم 5 مالك شبل الإسلام والعقل
في كتابه " الإسلام والعقل " : معركة الأفكار في العالم الإسلامي ، يتناول مالك شبل الدور الذي لعبه المعتزلة في تفسيرهم للدين الإسلامي، هؤلاء المفكرون الأحرار الذين لا يصلون إلى مستوى الفارابي وابن سينا وابن رشد ، لكنهم ناقشوا مواضيع مهمة مثل مسألة الحرية الفردية ، لكن ليس على طريق فولتير وروسو وديدرو فلاسفة الأنوار. ولكنهم فتحوا أبواب وتوافذ للتساؤل والشك(= بمعنى النقد )وراحوا يزعزعون البيان العقائدي الذي شكله الفقهاء الدوغمائيون في عصرهم خصوصا الحنابلة(57_58)
يقول شبل فيما معناه : إن المعتزلة رغم أنهم لم يترجموا فلسفة اليونانيين ولم يؤسسوا فلسفة خاصة بهم ، ولكنهم مع ذلك لعبوا دورا كبيرا في رفع راية العقل في عصرهم . هذه الراية التي نكسها بعدئذ أعداؤهم عندما قضوا عليهم ولاحقوهم في الأمصار (57 ).
فالمعتزلة ، تلك الجماعة التي انفصلت عن الفكر الدوغمائي الرسمي في الإسلام . انفصلت عن الفكر المتحجر الجامد الذي يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة وانه ختم العلم مرة واحدة والى الأبد ، وبالتالي فلا داعي لطرح التساؤلات أو تشغيل العقل بعد اليوم ، فكل المسائل الممكنة أجيب عليها من قبل السلف الصالح .
تعتبر فرقة المعتزلة حسب شبل أول المتكلمين في الإسلام أي أول من درس الدين دراسة جدلية كلامية منطقية على ضوء العقل،لقد كانوا أول العقلانيين في الإسلام قبل ظهور الفلاسفة من أمثال الفارابي وابن سينا ... وبذلك فتحوا باب المناقشات والمنظرات (58) .
من المبادئ التي ناضلوا من أجلها ، مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية في الإسلام واصطدموا بالفرق الأخرى التي تلغي الإرادة البشرية وتقول بالجبر لا بالاختيار. ومن هنا حداثة المعتزلة وعقلانيتهم التي مازالت تدهشنا حتى اليوم . ومن بين المسائل التي اشتعلت الخلافات بين المعتزلة وخصومهم مسألة التشبيه والتجسيم أو التجسيد . فالحنابلة كانوا يأخذون المعاني القرآنية على حرفيتها . فإذا قال القرآن مثلا " يد الله فوق أيديهم" فإنهم يعتقدون بأن لله يدا مثل البشر. ولكن المعتزلة كانوا يأخذون كل ذلك على سبيل المجاز . فهم يؤولون الآية السابقة مثلا على أساس أنها قدرة الله فوق قدرتهم أو استطاعة الله فوق استطاعة البشر.ثم يتعرض شبل إلى أخطر مناقشة خلافية فصلت بين المعتزلة والحنابلة وأدت إلى تكفيرهم وسحقهم لاحقا ألا وهي مسالة "خلق القرآن" ففي رأيهم أن القران ليس أزليا مثله مثل الله وإنما هو مخلوق في لحظة ما من قبله . ،انه عبارة عن ترجمة للإرادة الإلهية، ترجمة اتخذت صيغة الكتاب المقدس. فالقرآن في رأي المعتزلة ليس جزءا من الله ، وليس الله نفسه بشكل مادي أي الله الذي وحده أزلي وغير مخلوق . وبالتالي فالقرآن بحسب منظورهم ليس جزءا من الله ولكنه ترجمة لكلام الله . ولو كان القرآن المتجسد في المصحف الذي نلمسه ونحسه ونقرأه أزليا مثل الله لكان ذلك يعني انه يوجد إلهان في العالم لا اله واحد ، وهذا مستحيل و مناقض لكلام الله نفسه (60).
تلك هي بعض مواقف المعتزلة وتفسيرهم للدين الإسلامي ، التفسير العقلاني . فلو انتصر فكرهم ، لتغير مصير الإسلام ، ولما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تحجر عقائدي ، وظلامية لاهوتية، وتعصب أعمى، ولكن الذي حصل هو العكس ، فقد أدينوا وكفروا وأبيحت دماؤهم ومزقت كتبهم ، ولوحقت شخصياتهم في الأمصار . فلا يمكن انحطاط العالم الإسلامي الحاصل حاليا إلا إذا عدنا إلى تلك الفترة بعد نقدها .
الورقة رقم6 مكسيم رودنسون : بين الإسلام والغرب
دون الدخول في تفاصيل حياة مكسيم رودنسون وطفولته في سوريا ولبنان ،بل سننتقل مباشرة إلى الأسئلة التي طرحها عليه جرار خوري حول سبب انسداد العقليات في المشرق العربي ، يقول هاشم صالح، أعتقد أن جرار حصر مكسيم في الزاوية أكثر من مرة لكي يستنطقه لفهم منه سير الاستعصاء آو العجز العربي .
الأسئلة التي طرحها جيرار هي هل العوامل المادية هي السبب في تخلف العرب أم العوامل الفكرية والعقائدية هي السبب ؟
ف رودنسون كماركسي يعتبر أن الشروط المادية والاقتصادية هي المؤثرة بالدرجة الأولى . أما العقليات فليست إلا نتيجة لهذه الشروط لكيلا نقول انعكاسا لها .
إلا انه في رأي جيرار أن عقلية الغربيين تختلف عن عقلية الشرقيين من حيث أن الأولى تسمح بالفكر النقدي، في حين أن الثانية دوغمائية ومتحجرة . في هذا الطرح يجيب مكسميم نبعم . هذا صحيح بالنسبة للوقت الحاضر ،ولكن يمكن أن تتغير الأمور مستقبلا (66).
ففي نفس السياق يطرح السؤال التالي لماذا تتغير الظروف المادية حياتنا دون أن تتغير العقليات ؟ كيف يمكن تفسير أن أبناء العائلات البورجوازية في المدن الكبرى يظلون سجناء للعقلية الغيبية آو الدينية القديمة من الرغم بأنهم يدرسون في كليات العلوم ؟ لماذا لم تتغير عقلياتهم بتغير ظروفهم المادية (67)؟
لن يتزحزح رودنسون عن موقفه ، بل يرفض أن يأخذ بنظرية جورج دوبي بعين الاعتبار حول مفهوم العقليات وعلاقتها بالماديات وكيف أن الأولى تتخذ أحيانا استقلالية كبير ة بالقياس إلى الثانية. وفي مكان آخر من الكتاب ،ينبه إلى نقطة لها أهميتها وهي أن العرب والمسلمين لم يكتشفوا بعد الفكر النقدي ،ولم يطبقوه على تراثهم مثل ما فعل فلاسفة الأنوار. فهو يرى أن العرب مازالوا يعيشون في مرحلة القرون الوسطى التي خرجت منها أوربا . وبالتالي فينبغي أن ننتظر عدة قرون لكي يقوموا بالإصلاح الديني والتنويري(68).
فبالرغم من أن العصر،عصر الانترنيت والفضائيات والمتغيرات التي طرأ ت على المشرق العربي فان العقليات بقيت كما هي كما كانت عليه في العصر العثماني أو قبله بقرون عديدة.
إن ظهور لوتر مارتن في أوائل القرن السادس كان يمثل لحظة استثنائية في تاريخ الشعوب الأوربية . فقد انتشرت أفكاره في كل مكان .غير ت وجه العالم على الرغم انه كان فقيرا، ولكن الكلام الذي تلفظ به – أو قل انفجر به – حرر المسيحية الأوربية وبث الحياة في عروقها وشرايينها .بهذا المعنى يمكن القول "في البداية كانت الكلمة "، لا الاقتصاد ولا الماديات .
ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الفلسفة المثالية الألمانية؟فكانت وهيغل وجان جاك روسو .. فهؤلاء جميعا غيروا العالم وتقدموا به إلى الأمام بالقياس إلى لوتر .وحرروا الشعوب الأوربية من أسار العقلية القديمة الموروثة عن أب وجد منذ مئات السنين . ومن هنا يمكن أن نقول إن الفكر هو الذي يغير العالم ويقوده .ولكن ليس أي فكر(69) .
نعم إن أزمة العرب والمسلمين هي أزمة فكرية لا أزمة مادية أو اقتصادية بالدرجة الأولى. فالثورات الفكرية هي التي تمهد للثورات السياسية و الاجتماعية وليس العكس . فولا فلسفة الأنوار في أوربا، لما ظهرت الثورات الأمريكية والفرنسية .والانجليزية.
الورقة رقم 7 كاستور ياديس العرب والإسلام والغرب في المرآة
كان آخر إصدار لكاستور ياديس ، اليوناني ألأ صل ، فرنسي الجنسية ، كتاب بعنوان " صعود المتاهات " وذلك سنة 1966 .في هذا الكتاب يلقي الكاتب نظرة سلبية على آخر التطورات الجارية في الغرب ونظامه العالمي الجديد . ولكن نقده السلبي والقاسي لا يوصله إلى أبواب التشاؤم والاستسلام للأمر الواقع . وإنما يعتقد بإمكانه ظهور شيء ما في أي وقت ، ولا يبدو حكمه على وضع العرب والمسلمين أقل قساوة من حكمه على وضع الغرب ، على العكس، فالغرب على الرغم من كل تفاهاته يظل مركز الحركة الإبداعية والنقدية في العالم . يرى الكاتب انه لم يشهد التاريخ البشري حركة تحرر كبرى إلا في لحظتين، لحظة اليونان القديمة حيث ظهرت لأول مرة كل من الديمقراطية والفلسفة، ولحظة الغرب الحديث حيث ظهر التنوير الفكري والتعددية العقائدية السياسة والديمقراطية ، واللحظة الثانية هي امتداد للأولى (74).
ولكن مشروع التحرير هذا ، تحرير الإنسان من العبودية والاستسلام كان دائما يصادر أو يشوه أو يحرف عن مقاصده ، ثم يظهر مفكرون أحرارا جدد لكي يثوروا على مصادرة مشروع التحرير ولكي يدينوا التشويه الذي لحق به ... وهكذا دواليك . وبالتالي فان خصوصية المشروع الإغريقي يكمن في هذه النزعة النقدية الحادة ، أو قل في العودة النقدية على الذات ، وهي عودة صعبة ومرفوضة من قبل التراثيات الأخرى كالتراث الهندي أو البوذي أو الياباني أو العربي – الإسلامي(74) .
في هذه النقطة بالذات، تكمن خصوصية الغرب وربما تفوقه على جميع شعوب الأرض وتأسيسه للحضارة الحديثة. فالغرب اليوناني قبل خمسة وعشرين قرنا ، والغرب المعاصر منذ خمسة قرون هو وحده الذي تجرأ على نقد تراثه الديني ، والتحرر من اسره وقيوده طبقا لقوانين ذاتية أو عقلانية بلورها هو نفسه . فلا توجد بالنسبة إليه قوانين أبدية كما تتوهم الشعوب الأخرى المسجونة داخل تراثها والتي لا تستطيع أن تتحرر من استلابها التاريخي بل إنها تعشق هذا الاستلاب كما يعشق العبد العبودية ويشتهي المعاقبة من سيده . فالاستلاب يعني الغرق كليا في معاقبة الذات وجلده ورفض الخروج من حالة العبودية إلى حالة الحرية (74).
وحده الغرب استطاع الخروج من الانغلاق التراثي ، لكن الآخرين لا يزالون حتى ألآن يتخبطون في متاهات تراثهم المقدسة ولا يعرفون كيف يتخلصون من إسارها (74) .
وعلى الرغم من ذّلك المشروع التحرري الفريد من نوعه ، وجدنا الغرب أخيرا يسقط في حماة الامتثالية والأنانية والانغماس في الحياة الاستهلاكية وعبادة تجميع المال واقتناص الملذات واعتبار تلك القيمة الحيدة في الحياة .وهكذا انحرف المشروع التحرري ( الفلسفي والديمقراطي ) عن مساره الصحيح.
لكن ماذا عن العرب والمسلمين ؟ كيف يقيم الكاتب وضعهم ؟وما هي نوعية النظرة التي يلقيها عليهم ؟
في رأي الكاتب أن العرب يدينون الاستعمار الأوربي ، ملقين عليه كل أوجاعهم وأمراضهم الحالية، لكن ينبغي أن نعرف أن أطول استعمار لبلد عربي لم يزد عن 130 سنة وهذه هي حالة الجزائر . هذا في حين أن الأتراك العثمانيين قد استعمروهم لمدة 400 سنة . و لكن لا احد يقول شيئا. لماذا ؟ لأن الأتراك مسلمين، وبالتالي فان استعمارهم ليس استعمارا. كما ينبغي أن نعرف أن ازدهار الثقافة العربية قد توقف منذ القرن الحادي عشر، أو الثاني عشر .وبالتالي فالتخلف الحضاري العربي سابق عن مرحلة الاستعمار بكثير . السؤال متى يبدأ المشروع التحرري العربي والإسلامي؟ متى يتبلور للعرب عقل نقدي تنويري تفكيكي ليبدأ في مشروع نقد تراثه وتجديده وفق المناهج الحديثة والمعاصرة ؟
الورقة رقم 8 التعصب الديني ومتداولاته : كيف تشخيصه و معالجاته
كيف يطرح كبار المفكرين مسألة التعصب الديني؟ كيف يفهمونه ؟. عن هذه الأسئلة يجيب الكتاب الذي يحمل العنوان "التسامح آو التعصب " الذي شارك في تأليفه أكثر من خمسين باحثا من شتى أنحاء العالم . يقول هاشم صالح : لا أستطيع التوقف عند جميع أجوبة هؤلاء جميعا ،بل لا بد من الحذف والاختيار. ونحن بدورنا سنختار أهم الأجوبة التي اختارها هاشم.. سنتوقف عل مداخلات بول ريكور وجاك لوغوف ورينيه ريمون من الجهة الفرنسية ومحمد ألطالبي من الجهة العربية والإسلامية (77).
على هذا الأساس، يمكن فهم كيف يطرح مفهوم التعصب- التسامح في كلتا الجهتين .
مداخلة بول ريكور
يقول في ما معناه : إن التعصب يعبر عن ميل طبيعي موجود لدى جميع الكائنات البشرية. فكل شخص أو جماعة تحب أن تفرض عقائدها وقناعاتها على الآخرين، وبالتالي فالتعصب يعني أولا تسفيه عقائد الآخرين وقناعتهم أو احتقارها ، وهو ثانيا منع الآخرين بالقوة من التعبير عنها . وقد مارست جميع الأديان والمذاهب التعصب ولا سيما في فترة القرون الوسطى ولا يزال ممارسا حتى الآن في بيئات عديدة. وهنا يفرق بول ريكور بين فترتين أساسيتين من تاريخ الفكر . فترة ما قبل الحداثة وفترة ما بعد الحداثة . في الفترة الأولى كان التعصب طبيعيا ولا يشير إلى أي استغراب. كان الشيء المدهش هو التسامح . وكانت المذاهب المسيحية السائدة في الغرب الأوربي ينبذ بعضها بعضا وتكفر بعضها بعضا ( الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت )(78). فلهذا السبب حصلت حروب الأديان آو المذاهب ، وسالت الدماء بين الطرفين، ولم يخرجا من صراعاتهم إلا بعد أن حصل التنوير في هولندا وانكلترا ثم عموم أوربا (78). عندئذ دخل مفهوم الحقيقة في أزمة لأول مرة في تاريخ أوربا ، بل في تاريخ الفكر البشري ككل . ما المقصود بذلك ؟ المقصود به هو انه حتى ذلك الوقت ، كان الإنسان الكاثوليكي يعتبر نفسه بمثابة المالك الجيد للحقيقة المطلقة للدين المسيحي ، و يعتبر الأديان الأخرى كلها باطلة . ولكن المشكلة هي أن البروتستانتي كان يعتقد نفس الشيء ، ولهذا السبب حصلت المواجهات والمطاحنات بين الطرفين .لكن بدءا من عصر التنوير، أخد كل طرف يتساءل ، وماذا لو كان الآخر يمتلك أيضا جزءا من الحقيقة في فهمه للدين ؟ هكذا ابتدأ الشك يتسرب إلى نفسية المستنيرين من أبناء المذهبين .وعندئذ خفت حدة العداء بين الكاثوليك والبروتستانت وأخذا يتقاربان ويتحاوران .
ومع حلول الأنوار ، يقول ريكور ، راحت فكرة التعددية تفرض نفسها لأول مرة في تاريخ الفكر (78). ثم يخلص روكور إلى النتيجة التالية وهي أن المجتمعات الديمقراطية والليبرالية والدستورية في أوربا هي وحدها التي استطاعت أن تنتصر على مفهوم التعصب ، وان تفرض الحرية الدينية . السؤال هل تستطيع المجتمعات الأخرى أن تفعل الشيء نفسه بما فيها المجتمعات العربية والإسلامية؟ ومتى ؟ فهذه المجتمعات لم تجرب حتى ألآن عملية التنوير كما فعلت أوربا الغربية ،. أي أن أزمة الحقيقة المطلقة لم تحصل بعد .
مداخلة جاك لوغوف
يطرح لوغوف المسالة من منظور تاريخي بحكم أنه مؤرخ يقول في ما معناه : إن مفهوم التسامح ، وبالتالي التعصب الملازم له بالضرورة ، لم يظهر في الغرب إلا في القرن السادس عشر . وقد طبقوه لأول مرة على أتباع المذهب البروتستانتي الذين كانوا يعتبرون بمثابة الهراطقة في فرنسا . و في سنة 1562نشر مرسوم حول التسامح ثم التأكيد عليه 1695 في عهد الملك هنري الرابع من أجل عقن الدماء وإيقاف الحرب الأهلية التي أنهكت الشعب الفرنسي ..
يستنتج لوغوف من ذلك أن التعصب هو الموقف الطبيعي للإنسان وليس التسامح . التسامح شيء مكتسب ولا يحصل إلا بعد تثقيف وتعليم وجهد هائل تقوم بها الذات على ذاتها (80).
مداخلة رينه ريمون
يركز ريمون على نقطة أساسية هي : كيف قبل المذهب البروتستانتي فكرة التسامح لأول مرة ؟ يقول العميد السابق لمعهد العلوم السياسية في باريس إن الأديان الكبرى مفعمة باليقين التالي : وهي أنها تمتلك الحقيقة المطلقة وبالتالي فلا يمكن أن تقبل بأي اختلاف في مجال العقيدة والدين. لماذا؟ لان قبولها بالاختلاف يعني تخليها عن الحقيقة المطلقة أو مساواتها بالخطأ والانحراف والهرطقة . لهذا السبب ما كانت الكنيسة الكاثوليكية في الماضي بقادرة على هضم مفهوم التسامح أو التعددية العقائدية (80) . إذ كيف يمكن لي انأ الكاثوليكي المسيحي الصحيح أن أساوي نفسي بالمهرطق البروتستانتي ؟ معاذ الله . ثم بعد التنوير والثورة الفرنسية ، حصل تشنج أكثر لدى الكاثوليكيين المتزمتين ، يتهمون عصر النهضة وعصر الإصلاح الديني البروتستانتي وعصر الثورة الفرنسية بأنها السبب في خراب فرنسا . وذلك كرد فعل على هذه الحركة التاريخية التي تريد أن تساويهم بالآخرين ..
مداخلة محمد الطالبي
في مداخلة للطالبي بعنوان : " التسامح والتعصب في التراث الإسلامي" يقول فيما معناه : منذ البداية والإنسان بطبيعته كائن متعصب ، انه حيوان عدواني في جوهره ، الإنسان ذئب أخيه الإنسان كما قال هوبز . لكن الإنسان يصبح متسامحا بالضرورة أولا ثم عن طريق الذكاء والعقل ثانيا ، لأنه لا يستطيع العيش في حالة حرب كل يوم مع الآخرين (82) ، وبالتالي ، فلا بد من تدجين مشاعره العدوانية. أما فيما يخص المسلمين تحديدا ، فيرى المفكر التونسي أن هناك تيار ين في الإسلام القديم والمعاصر. تيار علماء الدين وفقهاء السلطة سابقا ،وتيار الأصوليين المتشددين حاليا ، وكلاهما معاد لحرية الفكر. والمتشددون هم الذين انتصروا تاريخيا في أرض الإسلام . ولذلك شاعت في الغر ب الفكرة القائلة بأن الإسلام متعصب في جوهره . وهذا غير صحيح (82) ، لأنه يجد تيار آخر متسامح .
.الورقة رقم 9 برونو ايتيين : هواة نهاية العالم : لكي نفهم أحداث 11 سبتمبر
ففي كتابه الجديد " هواة نهاية العالم" الصادر سنة 2002 .ل برونو ايتيين ( عضو في المعهد الجامعي بفرنسا ومدير مرصد الأديان في معهد الدراسات السياسية بمدينة ايكس آن بروفنس. ) من كتبه المهمة الأصولية الراديكالية الصادر سنة 1987، فرنسا والإسلام 1989 ، طريق من اجل الغرب 2001) . يحاول الكاتب في هذا الكتاب (هواة نهاية العالم ) شرح لغز 11 سبتمبر . فهو يركز في تحليله على العامل اللاهوتي – الديني الذي دفع بعض الشباب إلى ارتكاب تلك الجريمة الشنعاء التي انعكست آثارها السلبية على العالمين العربي والإسلامي وبشكل خاص على الجاليات الإسلامية في الغرب الأوربي – الأمريكي بل حتى الشرق الأقصى البوذي - الهندوسي – الكونفوشيوسي .
يرى الباحث أن هناك عدة عوامل دفعت ببعض المسلمين إلى ارتكاب أعمال العنف هذه . من بين تلك العوامل فشل التنمية الاقتصادية في المجتمعات العربية والإسلامية، انسداد أفاق العمل والمستقبل أمام الشباب (85) .انحسار الأيديولوجيات الكبرى من ليبرالية وقومية وماركسية ، هزيمة الخامس من حزيران وموت جمال عبد الناصر1970(86) .
غير أن هناك عاملا آخر ركز عليه الكاتب هو العامل اللاهوتي – الديني فصورة برجي نيويورك وهما يشتعلان أشبه بصورة نهاية العالم أو حتى يوم القيامة . والواقع أن الأصوليين الغلاة يريدون استعجال يوم القيامة من اجل القضاء على هذا العالم الفاسد النجس و التوصل إلى ملكوت الله . بأسرع وقت ممكن . فالحياة لا معنى لها بالنسبة للأصولي المتزمت الذي يعتبر كل مظاهر الحضارة الحديثة كفرا وفسقا فجورا (86) .
فلفهم عقلية الأصولي المتطرف عليك أن تدخل إلى عقليته لفهم دوافعه العميقة ، عليك أن تقوم بتحليل نفساني – لاهوتي لتلك العقلية. فهو يعتقد جادا انه بريد تدمير العالم من اجل استئصال الشر من جذوره ..
يواصل برونو تحليله لشخصية الإنسان المتعصب فيقول إن المتعصب يمتلك الحقيقة المطلقة ، بل انه الحقيقة ذاتها . وهو لا يعرف معنى الشك ولا البحث المتدرج أو الصعب والبطيء من اجل التوصل إلى الحقيقة. انه لا يعرف إلا اليقين المطلق ، انه مفعم باليقين . ولذا فهو يدهشنا بجرأة على الإقدام ، والموت والتضحية بذاته (86) .
هناك رؤيتان متضادتان للعالم : الرؤية الأخروية التقليدية والرؤية الحديثة . فالمتزمت لا يعترف بالمجتمع المدني كقيمة بحد ذاتها لان الحياة الدنيا كلها لا تساوي شيئا في نظره وإنما هي مجرد ممر إلى الحياة الأخرى كما قلنا .ولا يعترف بالقانون ولا بحرية التفكير ولا بالتسامح ولا بحقوق الإنسان ولا بأي قيمة من قيم العالم الحديث . لماذا ؟ لأنها قيم بورجوازية مادية لا أخروية (87).
لكن هل الأصولية المتزمتة حكر على الإسلام ؟
عن هذا السؤال يجيب الباحث بالرفض القاطع، .بل ويشن حملة على وسائل الإعلام الغربية لأنها أصبحت هستيرية بعد تفجيرات 11 سبتمبر . فالظاهرة الأصولية أو ظاهرة التعصب في الدين موجودة فكي الأديان التوحيدية الثلاثة . وكل دين كبير يفرز حتما في لحظة أو أخرى ظاهرة الأصولية والتزمت . فهناك التزمت في المذهب الكاثوليكي ، وفي المذهب البروتستانتي ، ويمكن أن نقول نفس الشيء ذاته عن اليهودية (87).
ولكن الشيء الذي حدث هو أن تقدم العلم في الغرب أجبر المسيحيين على التطور والتغير ومساير العصر . فبعد أن قاوموا النقد التاريخي للنصوص الدينية لفترة طويلة .اخذوا يقبلون به . وهذا الشيء لم يحصل للأسف في الإسلام حتى الآن .ومن هنا ذلك الصدام المروع الحاصل حاليا بين الأصولية الإسلامية والحداثة .
الورقة رقم 10 هاشم صالح : النقد التاريخي للنصوص المقدسة
يقول هاشم صالح تعودت في السنوات الأخيرة ألا اقرأ فقط فلاسفة الغرب ،وإنما كذلك علماء الدين واللاهوت فيه أيضا . ومن بين هؤلاء اللاهوتيين ، اللاهوتي الألماني هانز كونغ ، من بين كتبه ، كتاب بعنوان "من أجل لاهوت للقرن الواحد العشرين " يحاول من خلاله بلورة نظرية لاهوتية حديثة تليق بتقدم العلم والفكر في أواخر القرن العشرين.و أوائل القرن الواحد والعشرين
يرى كونغ أن علم اللاهوت يتطور مثله في ذلك مثل أي علم آخر ، كالفيزياء آو علم الاجتماع أو علم النفس ... فتفسيرنا الحالي للنصوص الدينية الكبرى آو للكتب المقدسة لم يعد هو تفسير القدماء الذين عاشوا في عصور كانت المعرفة البشرية فيها لا تزال بدائية (90).
ولعل سبب الصدام الحاصل حاليا في العالم الإسلامي يعود إلى ما يمكن تسميته بانفصام الشخصية العربية الإسلامية أي أن العصر الذي نعيشه ، فيه تطور وتغير . ولكن فهمنا للدين لم يساير هذا التغير والتطور، وإنما بقي كما كانت عليه الحال في العصور الوسطى .فنحن لا نزال نحمل في أعماقنا تصورات لا تاريخية ولا عقلانية عن الدين وهذه التصورات أصبحت تدخل في تناقض واضح مع العقلية العلمية والفلسفية للعصر . ولهذا السب يعلن الجناح المتطرف فينا حربه على الغرب وعلى الحداثة الكونية ككل . أما في الغرب فان النظرة إلى الدين كانت تتطور، كلما تطورت المعرفة العامة للمجتمع وبتأثير منها . ولذلك لم يعد ثمة تناقض حاد بين رجال الدين وبين المجتمع ككل (90).
فرجال الدين أنفسهم سواء كانوا كاثوليكيين أو بروتستانتيين استوعبوا المعرفة العلمية وهضموها ، بل واستفادوا منها في تجديد فهمهم للدين وبلورة لاهوت جديد لا يصطدم مع العلم والفلسفة والعصر(90).
سوق هشام صالح هذا الكلام ليسوق مدخلا ملائما لعرض الكتاب الضخم والهام ل كونغ ( 620صفحة ).ينطلق فيه يونغ من المنطلق التالي : بما أن المذاهب المسيحية في أوربا وبخاصة المذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي استطاعت تحقيق المصالحة بينها عن طريق الحوار والنزعة المسكونية ( تلك الحركة التي ظهرت في بدايات القرن العشرين وأدت إلى التقارب بين المذهبين المسيحيين الأساسين لأوربا الغربية ) فلماذا لا تستطيع الأديان الأخرى أن تحقق نفس الشيء. ؟ فهانز كونغ يريد تعميم هذه التجربة التاريخية وتوسيعها لكي تشمل كل الأديان (91).
طبعا لا توجد حركة تقيم بالتقارب بين المذاهب الإسلامية مثل السنة والشيعية و.. وهنا يظهر التفاوت التاريخي بين المجتمعات الأوربية والمجتمعات العربية والإسلامية . فالتفاوت لا يخص علوم الذرة والفضاء والتكنولوجيا والفلسفة فقط وإنما يخص العلوم الدينية أيضا . فنحن لسنا متقدمين دينا ومتخلفين تكنولوجيا وإنما نحن متخلفون على كلا المستوين . ولذلك ينصحنا كونغ بألا نقاوم تطبيق النقد التاريخي على نصوصنا المقدسة كما فعل المسيحيون في الغرب طيلة القرون الماضية . فهذا شيء لا مندوحة عنه ولا مفر منه . فالتاريخ يعلمنا أن الأصولية اليهودية التي حاولت قمع سبينوزا فشلت في آخر المطاف . وقل نفس الشيء عن الأصولية الكاثوليكية التي حاولت قمع ريشار سيمون الفرنسي الذي حاول تطبيق المنهج التاريخي على التوراة والإنجيل (92).
الورقة رقم 11 مقارنة بين الأصوليات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلامية
نتناول في هذه الورقة أهم ما جاء في كتاب "نيران متقاطعة : العلمانية أمام تحديات الأصوليات الثلاث – اليهودية والمسيحية والإسلامية للباحثتين كارولين فوريست وفيامترا فينير يقارنا فيه بين الأصوليات الثلاث المتزمتة وتحدياتها أمام العلمانية.
عندما حصلت ضربة 11 سبتمبر اتجه العالم صوب خطر الأصولية الإسلامية دون اتهام الأصوليات الأخرى المسيحية واليهودية بخاصة . هل يعني أن الأصولية الإسلامية أكثر تزمتا مقارنة مع الأصوليات الأخرى بخاصة المسيحية واليهودية ؟
تقول المؤلفتان : إن هناك تقاطعات أو نقطا مشتركة عديدة بين الأصوليات الثلاث . صحيح أنها تكره بعضها بعضا إلى حد الموت لأن كل أصولية تدعي امتلاك الحقيقة الإلهية المطلقة . فاليهودي المتزمت يعتقد أنه أول من تلقى الوحي التوحيدي ،وبالتالي فهو وحده الصحيح وما جاء بعده تقليد باهت أو ناقص له . والمسيحي المتزمت يعتقد أن الحقيقة الإلهية المطلقة والكاملة تتجسد في المسيح فقط . والمسلم المتزمت يعتقد بأن الإسلام هو نهاية الوحي وخاتمة الأديان ، وهو وحده المكتمل . ولكن جميع هؤلاء المتزمتين يقفون في صف واحد ضد العلماني الليبرالي لأنهم يعتبرونه فاسدا ومنحلا . كما ويدينون انحرافات العالم الحديث وأخلاقياته الجنسية والفكرية والسياسية ، مما يعني أن الأصوليات الثلاث دخلت في حرب مفتوحة فيما بينها وبين التنوير والعلمانية ، هذا هو جوهر الصراع الدائر الآن . فهو ليس بين الإسلام والغرب (97) . فالعلمانيون آو المومنون بالليبرالية موجودون في كل الجهات وكذلك الأصوليون المتزمتون الذين ضد حرية المرأة وجميعهم مع الحجاب وضد تحديد النسل والإجهاد وجميعهم ضد حرية الاعتقاد وجميعهم يكفرون الناس وجميعهم يدينون الحداثة والحرية الفكرية والديمقراطية والفلسفة والعقلانية والتنوير (97).
فالمرأة بالنسبة لليهودي المتزمت يبتدئ صباحا بالدعاء التالي "حمد الله على انه لم يخلقه امرأة " رغم أن التوراة لا يحتوي عل أي شيء يمنع المرأة من التعلم و التثقيف . ولكن الحاخامات هم الذين منعوها (97) .
وكذلك الأمر فيما يخص بالمسيحية والإسلام.. فالمسيح كان مع المرأة ، لكن المسيحيين المتزمتين كانوا ضدها . وكان محمد يدافع عن المرأة لكن الفقهاء والمتزمتين كانوا ضدها ..فهناك قراءة رجعية أو متزمتة لا تتماشى مع التطور التاريخي، يكرسها المتزمتون بجميع الوسائل (97).
وعن اضطهاد المرأة المسلمة خاصة في المملكة السعودية تقول الباحثتان : لا يوجد في أي نظام في العالم يضطهد المرأة كالسعودية . هناك قانون سوسيولوجي ينص على أن الرأسمالية تؤدي بالضرورة إلى الديمقراطية ولكن لا ينطبق على السعودية . فعلى الرغم من البترودولار وحركة التحديث العمراني والتجاري والصناعي إلا أن وضع المرأة ظل هو هو منذ مئات السنين بسبب هيمنة المذهب الوهابي المتزمت مقارنة مع المذاهب الأخرى .
كما أعطت الباحثتان نظرة موجزة على سياسة التعليم في الباكستان . فالدولة لا تقوم بواجبها في هذا المجال . ولذلك انتشرت المدارس القرآنية المتزمتة ومنها خرجت "الطالبان " أي الحركة الأصولية الأكثر تزمتا في العالم (ص103) . فلماذا نستغرب إذن انصياغهم لها ولتعاليمها وانخراطهم في الحركات ا لجهادية بل الإرهابية العنيفة بعد تخرجهم ؟ الم تكن قد حشت أذهانهم حشوا بأفكار ابن تيمبة والمدودي وسيد قطب وغيرهم من المتطرفين ؟
رغم هذه النقط التي أشارت إليهما الباحثتان فهما تعترفان بان هناك قوى قادرة على تحديث العالم العربي والإسلامي ودمقرطته وعقلنته ، وأن النخب المثقفة :سياسيا وفكريا قادرة أن تخرج المنطقة من عقلية القرون الوسطى .
الورقة رقم 12 بنيامين باربر : العولمة الرأسمالية والتزمت الأصولي ضد الديمقراطية
يعتبر بنيامين باربر أحد المثقفين الأمريكيين البارزين حاليا . وهو لا يقل أهمية من حيث الصيت والشهرة عن فرانسيس فوكوياما وصمويل هنتنغتون أو حتى نعوم تشومسكي .
فبنيامين في كتابه" الجهاد ضد أمركة العالم" : العولمة الرأسمالية والتزمت الأصولي ضد الديمقراطية يقف في الجهة المضادة لصمويل هنتنغتون من حيث تركيزه على نقد الامبريالية التجارية التوسعية لأمريكا ، وليس فقط الاكتفاء بنقد الأصولية الإسلامية . فهو لا يعتبر أن الخطأ موجود في طر ف واحد ، بل في طرفين . فالحضارة الغربية ليست خالية من العيوب كما يزعم هنتنغتون أو حتى فوكوياما. الفوضى العالمية الحاصلة حاليا ليست ناتجة فقط عن انفجار العصبيات الدينية والعرقية والطائفية في أنحاء شتى من المعمور وإنما هي ناتجة أيضا عن توسع العولمة الرأسمالية الجشعة التي لا تعرف إلا قيمة الربح والاستهلاك المادي المسعور وازدهار الأسواق التجارية (ص107).
فبنيامين الأستاذ للعلوم السياسية في جامعة نيويورك المنتمي إلى الجناح المستنير شاهد بأم عينيه الطائرتين اللتين نطحتا برجي المركز التجارة العالمي وهو يلقي درسه مع الطلبة (ص107) .مما أوحى له أن هناك صراع كوني بين قوى الجهاد وبين الثقافة الرأسمالية العالمية. ويقصد الجهاد هنا مجمل القوى المضادة للحداثة وفي طليعتها الأصولية الإسلامية بالدرجة الأولى (108).
فمن خلال تحليلاته للحدث خلص بمنيامين إلى النتيجة التالية : إن عقل الأصوليين. ينتمي إلى العالم الحديث لاستعمالهم للتكنولوجيا : الانترنيت - الهواتف النقالة -وسائل المعلوماتية الحديثة المتطورة- الطائرات السريعة.(108)وروحهم تنتمي إلى العهود الغابرة والقرون الوسطى . وهنا وجه الغرابة والتناقض الذي يصعب علينا فهمه أو استيعابه .فالذين هاجموا نيويورك وواشنطن برهنوا على مهارتهم العالية في السيطرة على التكنولوجيا ، ٍ فهؤلاء ليسوا أغبياء وإنما هم أشخاص يتمتعون بكفاءات عالية ، وبالتالي فهم يستخدمون أدوات النظام الرأسمالي الغربي ، يريدون تدميره أو الإطاحة به . وبالتالي فهم يحبون التكنولوجيا الغربية ويرفضون الفلسفة العلمية التنويرية .
هؤلاء الذين عقولهم في جهة وروحهم في جهة أخرى يجب تشخيص شخصيتهم ، ما في نفوسهم وعقولهم وصولا إلى المفكر فيه (108).
يستغرب بنيامين ولع الأصوليين المتزمتين بكل وسائل المعلوماتية والتكنولوجية الحديثة ، وكرههم في ذات الوقت لكل الأفكار الحديثة الآتية من الغرب . ويعتقد عندئذ أن الأمر يتعلق بانفصام في الشخصية . ولهذا السبب يقول إن عقلهم في جهة وروحهم في جهة أخرى . فقد كان من المنطق أن يرفضوا الحداثة كلها جملة وتفصيلا باعتبارها ناتجة عن الكفر والكفار .(108) ولكنهم قبلوا بوعائها الخارجي : أي الآلات التكنولوجية ورفضوا روحها ، أي الفكر الفلسفي والعلمي الذي يرون فيه خطرا على عقيدتهم اللاهوتية .
ولكن في رأي بنيامين ينبغي القول للإنصاف والعدل بان العولمة الرأسمالية المفرغة من أي حس أنساني آو أخلاقي مسئولة أيضا عن هذا الوضع. ولذلك هاجم المؤلف منذ العنوان كلا الطرفين من دون أن يضعهما على مستوى واحد .فأمركة العالم يرافقها الفقر واللامساواة والشعور بأنك ضحية السوق العالمية . ثم تشعر بأن قدرك محسوم سلفا من قبل الأقوى لا مرئية تتحكم بمصير العالم من خلف الستار أو من خلال الضغط على الأزرار. فإننا إن لم نصحح مسار العولمة ، فان المعركة ضد الحركات الأصولية المتطرفة لن تنجح . وهذا هو ما لا يفهمه بوش وإدارته (109) .
أما كلمة الجهاد " عند بنيامين المستخدمة في العنوان لا يعني فقط الجهاد الإسلامي ، بل تعني أيضا كل الأصوليات الدينية الرافضة للحداثة وهذا يعني أن المؤلف يعامل الجميع معاملة واحدة ولا يحصر التعصب في الإسلام فقط كما يفعل الكثيرون من مثقفي الغرب حاليا . ولكن بما أن الأصولية الإسلامية هي الشغل الشاغل للعالم بعد 11 سبتمبر فان الناس يعتقدون بان الأديان الأخرى خالية من ظاهرة التزمت والغلو في الدين (109).
السؤال . ما الحل للتخلص من مخاطر الأصولية الدينية من جهة والعولمة الرأسمالية من جهة أخرى ؟
الورقة رقم 13 فريدون هويدا : الانسداد الخطير للعالم أسبابه-تجلياته – علاجه
يبدأ هاشم صالح بمقولة للفيلسوف نيتشه تقول : " إن المفكر هو طبيب حضارات ، وان الحضارات تمرض مثلها في ذلك مثل الأفراد . و بالتالي يظهر المفكرون من حين إلى آخر لكي يشخصوا أمراض الحضارات ، ويجدوا لها العلاج إذا أمكن" .
بالفعل ،فهناك إجماع الآن في الشرق كما في الغرب على أن الحضارة العربية الإسلامية تعاني من مرض مزمن ، وربما عضال ، وقد كثرت تشخيصات المفكرين العرب على مدى العقود الأخيرة الماضية ولكن دون جدوى .
فالكتاب الذي بين أيدينا "الانسداد الخطير للعالم : أسبابه – تجلياته – علاجه للمفكر الإيراني فريدون هويدا الصادر 1992 يذهب في هذا الاتجاه .فما هي أطروحة هذا الكتاب ؟ يطرح الكاتب سؤالا محوريا هو لماذا توقفت الحضارة العربية الإسلامية بشكل مفاجئ بعد أن بلغت ذروتها في القرون الأولى للهجرة ثم جمدت وماتت بعد القرن الثاني عشر للميلاد ؟ما هو سبب مرضها العميق ؟( وهي نفس الأسئلة التي طرحها أركون في كتابه النزعة الأنسنة في الإسلام )
في رأي الكاتب أن الأرثوذكسيات العقائدية بانتصارها في القرن 12 .م ، وقضائها على العلوم وعلى الفلسفة وعلى التيار العقلاني في الفكر الديني، تيار المعتزلة بشكل أساسي ( الأرثوذكسية هي تلك العقيدة التي تعتبر نفسها بمثابة الحقيقة المطلقة ، وكل من ينحرف عنها قيد شعرة يعتبر كافرا آو زنديقا (ص114)).
هكذا يصب الكاتب جام غضبه على الجمود اللاهوتي والفكري الذي حصل في القرن 12 . م . هذا الجمود هو المسئول عن تلك المصائب التي نعاني منها اليوم ، وبالتالي فهو يعود بجذور ذلك المرض المزمن إلى ثمانمائة سنة وليس إلى الأمس القريب . فالعلة راسخة وعميقة ولذلك يصعب على مبضع الجراح أن يصل إليها . ولذلك باءت كل مشاريع التشخيص السابقة بالفشل(114).
وهناك أسباب أخرى لانهيار الحضارة العربية الإسلامية ، منها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو سياسي، ومنها ما هو فكري . من الأسباب الفكرية تراجع أبي الحسن الأشعري عن فكر المعتزلة وانضمامه إلى أهل التقليد آو ما يدعوه المؤلف بالأرثوذكسية ، تراجع مثلا عن مقولة خلق القرآن التي قالت بها المعتزلة ورفض الحنابلة هذه الأطروحة التي انتصرت في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي و جمدت النص المقدس ، وجعلته يبدو كأنه خارج الزمان والمكان آو لا علاقة له بهما (114).وبالتالي أغلقت معنى النص وحكمت باستحالة أي تطور في التأويل لاحقا .
ثم جاء أبو حامد الغزالي الذي رسخ مواقف سلفه عن طريق التعليم ( المدرسة النظامية) في المدارس السلجوقية ( القرن 6 للهجرة ) ووجه ضربة موجعة إلى الفلسفة في ديار الإسلام . ضربة لم تقم منها لحد الآن . ثم جاء بعده ابن تيمية وابن الجوزية والسيوطي و ابن الصلاح وغيرهم من الأرثوذكسيين . وهكذا تم الانغلاق .
كما أنكر الأشاعرة وعلى رأسهم الأشعري والغزالي مبدأ السببية في ا لطبيعة ومبدأ الاتصال حسب نظريتهم "الجوهر الفرد ". فإلغاء مبدأ السببية هو إلغاء للعقل وللمنطق ، والدخول في دوامة مبدأ "التواكلية " والتسليم مما يفتح المجال للمعجزة والكرامة في رأيهم ...(115). أما الحضارة الأوربية ة فلم تنهض ألا بعد أن قضت على ذلك التفكير الغيبي اللاهوتي المتجمد والمحنط داخل المسيحية ،وردت الاعتبار لمبدأ السببية في الطبيعة مما أدى إلى ظهور العلم الحديث الذي ظهر في الغرب ولم يظهر في العالم الإسلامي مع الأسف .أما نحن ، فنحن ورثة تلك التركة والمواقف الأرثوذكسية التي تشكلت في القرن الثاني عشر للميلاد على يد فقهاء التزمت والانغلاق ( شيعة وسنية وخوارج ...). وها نحن الآن نؤدي الثمن .
نحن مدعوون لتفكيكها وإعادة قراءة النصوص المقدسة قراءة تناسب المرحلة ، مرحلتنا نحن وليس مرحلة الأشعري والغزالي وابن تيمية وابن الصلاح صاحب الفتاوى التاريخية ،و فتح ذلك الانسداد الخطير في العالم الإسلامي .
الورقة رقم14 الفريد مورتبيا : الجهاد في الإسلام
أخذ موضوع "الجهاد " يطرح بكل إلحاح على الباحثين والمثقفين بصعود الحركات الأصولية المتشددة . ومن بين الأسئلة التي تطرح على الساحة ما معنى الجهاد ؟ ما علاقة الحركات الجهادية بالجهاد الأول الذي شهده الإسلام في مرحلة القرون التأسيسية من تاريخه؟ هل يتعلق الأمر بالجهاد نفسه أم أن الأمر يختلف باختلاف الظروف والمعطيات ؟ هل مفهوم الجهاد في زمن النبي والخلفاء الراشدين هو نفس المفهوم عند الفقهاء في العصرين الأموي والعباسي ؟ هذه هي أهم الأسئلة التي يطرحها الكتاب : الجهاد في الإسلام أثناء فترة القرون الوسطى و على ضوء الظروف الحالية للمستشرق الفرنسي الفريد مورابيا المزداد بالقاهرة سنة 1931 .
ففي تقديم المستشرق روجيه ارنالديز للكتاب يقول منذ البداية : بحث الفريد موراتبيا هو بحث مؤرخ محترف أي يأخذ حقائق التاريخ بعين الاعتبار ، فهو كمؤرخ لا يستطيع القول إن الجهاد بالمعنى الإسلامي للكلمة قد ولد من لا شيء. فقد كانت له سوابق في العادات والتقاليد العربة السابقة عن الإسلام . فقبل الإسلام كانت القبائل العربية تخوض الحروب ضد بعضها البعض من أجل السيطرة على الخطوط التجارية للقوافل . وهناك علاقة بين البواعث النفسية للجهاد والبواعث النفسية لأيام العرب . فالبطل العربي كان أيضا مدعوما من قبل الملائكة في موقع بدر وكان البطل العربي يتحلى بالثبات ويتميز بالصبر ، لكن هناك أشياء إضافية حصلت بعد الإسلام ألا وهو التعالي الإلهي ، فعلى عكس معارك العرب في الجاهلية ، أصبح القتال يتم في سبيل الله . وهكذا خلعت مشروعية الوحي الإلهي على الجهاد الذي كان في الأصل معركة عسكرية محضة (122-123)
هكذا حدد الكاتب مفهوم الجهاد عند العرب قبل الإسلام ثم بعده . لكن هل المفهوم بقي هو هو بعد الخلفاء الراشدين ؟ إذا كان يتوهم التقليديون أن مفهوم الجهاد بقي على حاله كما كان زمن النبي والخلفاء الراشدين، فان المنهجية التاريخية تقول لنا العكس. فهناك أشياء كثيرة طرأت واستجدت ، ومن أهمها أن المسلمين وجدوا أنفسهم لأول مرة في مواجهة الأمم الأخرى غير العربية ،وعندئذ وتحت ضغط الفتوحات تمت بلورة النظر ية العامة للجهاد في الإسلام . وهي نظرية تستوحي تجربة النبي والنص ألقرآني ، ولكنها تدخل في التفاصيل أكثر وتستوعب عناصر جديدة ما كانت موجودة سابقا .(123) .
وهكذا كان الجهاد في القرآن مفتوحا على المطلق ، مطلق الله ، ولكنه تحول على يد الفقهاء إلى عصبية هدفها التوسيع وتأسيس الإمبراطورية الإسلامية بالدرجة الأولى .
إلا انه بعد هذا التعريف والتنظير للجهاد من طرف الفقهاء الكلاسيكيين، أصبح المفهوم يأخذ صيغا أخرى جديدة بعد انتقال الجهاد ضد الخارج إلى الجهاد ضد الداخل ، أي ضد المذاهب الإسلامية التي رفضت الاعتراف بالآخر بالأمر الواقع المتمثل بحكم الأمويين و العباسيين ( كل فرقة تعتبر نفسها هي الناجية ) هذا النوع من الجهاد هو الذي مازال مهيمنا وحتى الآن .
السؤال ماذا يعني الجهاد عند الحركة المتطرفة حاليا ؟ ماذا يقول عنه بنلادن والظواهري والزرقاوي ؟
الورقة رقم 15 جيل كيبيل : الجهاد وصعود الحركات الأصولية ثم انحدارها
حول أطروحة جيل كيبيل المركزية – الجهاد وصعود الحركات الأصولية .
تمثل أطروحة جيل كيبيل في أن الحركات الأصولية التي سيطرت على المجتمعات العربية والإسلامية طيلة العقود الأخيرة وحققت نجاحات جماهيرية هي الآن في طور الأفول والانحدار . ما الذي يحمل القول بذلك ؟
يستخدم المؤلف منهجية سوسيولوجية في تحليله . فهو لا يكتفي بعرض أفكار
الأصوليين وعقائدهم بشكل تجريدي نظري ، بل يربط كل ذلك بالظروف الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية (130) . و يبدو في تحليله للظاهرة في معظم الأحيان محسوسا وعقلانيا ومقنعا . فمن الواضح أن الازدياد الهائل في عدد السكان بعد الستينات ، ثم البطالة والعطالة ، كل ذلك أدى إلى نشوء الحركات الأصولية ونموها السريع (130).
ويعتبر المؤلف أن الفئات الثلاث الاجتماعية البرجوازية المتدينة في المدن + الشبيبة المسحوقة بالفقر والبؤس وكذلك الطبقات الشعبية التي تملأ بيوت الصفيح في ضواحي المدن الكبرى + طلبة الجامعات من المثقفين الأصوليين . هذه الفئات هي التي أمنت للحركات الأصولية تلك الشعبية العارمة في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي . هي التي أوصلتها في بعض أبواب السلطة كما حصل في بعض الأحيان كما حصل في مصر بعد مقتل السادات مباشرة . أو في الجزائر بعد نجاح جبهة الإنقاذ في انتخابات 1991 -1992 .
انقسمت الحركة الأصولية إلى قسمين بعد لجوء العناصر المتطرفة إلى الأعمال الإرهابية، مما جعل البرجوازية المتدينة تخاف منها ( أي الإعمال الإرهابية ) وتبتعد عنها شيئا فشيئا . وهذا التقسيم إلى حركة إرهابية والى حركة ترفض العنف هو الذي أدى إلى فشل الحركات الأصولية إلى هدفها ، و الوصول إلى سلطة الحكم في رأي كيبيل (130).
وحدها الحركة الأصولية الإيرانية التي وصلت إلى السلطة بقيادة الخميني ، لأنها استطاعت أن تجيش كل الفئات الاجتماعية بجميع أنواعها . إلا انه بعد مضي حوالي 20 سنة على هذه الثورة الخمينية بدأ في تصدع بداخلها . إذ تبين أن محصلة حكم رجال الدين ( ولاية الفقيه) مخيبة للآمال في طهران . ولذلك انفصل عن المشروع كلا المثقفين العلمانيين وقسم كبير من الطبقات الوسطى التي يدعوها كيبيل بالبرجوازية المتدينة التي تسكن المدن . فكنتيجة للحكم القمعي الخانق لرجال الدين راح التيار الإصلاحي يكبر ويتسع حتى أدى إلى انتخاب محمد خاتمي رئيسا للجمهورية وإسقاط مرشح المحافظين إن لم نقل الظلاميين .( 131).
الورقة رقم 16 جيل كيبيل : الفتنة حرب داخل الإسلام
ففي المقالة السابقة ( الورقة رقم 15) تعرفنا على أطروحة جيل كيبيل التي تدور حول موضوع توسيع الحركات الأصولية ثم أفولها وانحدارها . وفي كتابه الجديد "الفتنة : حرب داخل الإسلام " الصادر سنة 2004 ، يطلعنا كيبيل بأطروحة جديدة تكمل ما جاء في كتاب "الجهاد " يأخذ فيه بعين الاعتبار المستجدات التي حصلت منذ 11 سبتمبر بالإضافة إلى ما حصل بعد انفجار مدريد حيث ارتكبت الأصولية الراديكالية جريمة نكراء تحت اسم "غزو الأندلس " .
وفي تحليله الأكثر عمقا وإضاءة ، يدرس المؤلف العوامل الداخلية والخارجية العربية – الإسلامية والدولية التي أدت إلى تلك الجريمة النكراء التي هزت العالم هزا .وليس أمريكا فقط . ولكي يتوصل الباحث إلى ذلك يدرس التفاقم الخطير آو الانسداد الرهيب الذي طرأ على الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بعد فشل معاهدة أوسلو .. كما درس صعود المحافظين الجدد في أمريكا إلى السلطة (،هؤلاء ليسوا محافظين بمعنى المحافظة على الواقع كما هو بل هم يريدون تغيير العالم وخاصة منطقة الشرق الأوسط (135).
فقبل أن يدخل هشام صالح في مناقشة أطروحة جيل كيبيل الأساسية للكتاب يعدد عناوين الفصول لكي يأخذ القارئ فكرة عن الهيكلة العامة للكتاب .
فبعد المقدمة ، نجد مدخلا بعنوان "فشل سلام أوسلو " وبعد ذلك نجد ستة فصول ثم خاتمة . الفصل الأول يحمل عنوان "ثورة المحافظين الجدد " وهنا يقدم المؤلف لمحة تاريخية عن صعود هذا التيار الفكري – السياسي في أمريكا منذ ستينات القرن الماضي وهو تيار أحدث قطيعة كبرى في السياسية الخارجية الأمريكية القائمة على الدبلوماسية الحذرة وواقعية كيسنجر وبوش الأب وكولين باول وغيرهم وانتقل بها إلى مرحلة جديدة ، مرحلة تغيير موازين القوى في الشر ق الأوسط بالقوة .
أما الفصل الثاني من الكتاب فنجد العنوان التالي "ضرب العدو الأبعد "وهي عبارة مستمدة من كتاب الرجل الثاني في تنظيم القاعدة الظواهري في كتابه "فرسان تحت راية النبي "
يقوم كيبيل بتحليل هذا الكتاب للظواهري ويبني عليه أطروحته الأساسية وملخصها هو التالي : بعد أن يئس الأصوليون الدمويون من تغيير الأوضاع داخل البلدان العربية وقلب العدو الأقرب – أي الأنظمة الحاكمة – قرروا ضرب العدو الأبعد أي أمريكا التي يتهمونها بدعم هذه الأنظمة .
أما الفصل الثالث فهو يتحدث عن كيفية مطاردة القاعدة من قبل الأمريكيين وكيفية القضاء عليها . من دون أن ينجحوا في ذلك .
أما الفصل الرابع فيحمل عنوان " الجزيرة العربية تحت عين الإعصار" ،في حين أن الفصل الخامس فهو مكرس للحالة العراقية التي فجرت كل التناقضات في المنطقة. أما الفصل السادس والأخير فيتحدث عن" معركة أوربا " أي المعركة الدائرة حاليا بين تيارين في الإسلام الأوربي : تيار الانفتاح والحداثة وتيار الانغلاق والتزمت الأصولي (137).
الورقة رقم 17 قرن كامل من أجل لا شيء : من الإمبراطورية العثمانية إلى الإمبراطورية الأميركية
الكتاب الذي بين أيدينا "قرن كامل من أجل لا شيء : من الإمبراطورية العثمانية إلى الإمبراطورية الأمريكية" هو كتاب لثلاثة صحفيين مرموقين على المستوى العالمي : الصحافي الفرنسي جان لاكوتير وغسان تويني ثم جيرار خوري .
السؤال المهيمن على الكتاب هو لماذا فشل مشروع النهضة العربية الذي كان واعدا لحظة انبثاقه في النصف الأول من القرن التاسع عشر ؟ ما الذي حصل حتى أجهد هذا المشروع ووصل العرب إلى ما وصلوا إليه الآن من هزيمة وأصولية ووضع مأساوي ؟هل يمكن أن ينتهي المشروع النهضوي الكبير إلى ولادة أشخاص مثل بنلادن والظواهري والزرقاوي ؟ لماذا نجحت تركيا في مشروعها النهضوي إلى حد الآن ، بل حتى إيران على الرغم من أن المعركة لم تحسم بعد بين المحافظين والإصلاحيين وفشل العرب ؟
تلك هي الأسئلة التي يطرحها الكتاب منذ البداية إلى نهايته
من خلال الحوار الذي دار بين الصحفيين الثلاثة تبين أن التاريخ الحديث للشرق الأوسط يبتدئ مع محمد علي الذي استوعب التأثير الفرنسي الناتج عن حملة نابليون وليس مع سقوط الإمبراطورية العثمانية عام 1918 كما يرددون غالبا . فالإمبراطورية كانت منغلقة على ذاتها قبل ظهور محمد علي وانجازاته وانفتاحه على العالم الحديث (142) .
ففرنسا وانجلترا و غيرهما من الدول العظمى هي التي أيقظت الشرق من نومه العميق في ظل إمبراطورية منهمكة لم تقدم أي انجازات علمي – فلسفي للبشرية طيلة أربعة قرون من تاريخها (142) .
كان من أسباب النهضة العربية تحديث اللغة العربية ، الترجمات من الفرنسية والانجليزية بشكل خاص مع إدخال المطبعة ، ثم المنشورات والكتب ، هذه الحركة الثقافية راحت تتصاعد طيلة القرن التاسع عشر .
كما ينبغي الإشارة إلى الدور الذي مارسه التأثير الفرنسي في مصر . فالأفكار التنويرية وأفكار المساواة وبقيت الأفكار التي نادت بها الثورة الفرنسية أثرت حتما على محمد على وابنه إبراهيم باشا .كما ظهر تيار عقلاني بالمنطقة ناتج عن فلسفة الأنوار الأوربية .وقد انتشر هذا التيار في الإمبراطورية العثمانية كما في مصر ولبنان (143).
لكن رغم ذلك فشلت النهضة العربية . لماذا ؟
طبعا هناك عدة أسباب سوسيو لوجية ( اجتماعية – اقتصادية ) لفشل التنوير العربي أو النهضة العربية . ولكن هناك سبب آخر لا يمهله الكاتب ، يقصد به المشروع الصهيوني الذي شغل المنطقة واستنزف طاقاتها على مدى قرن كامل ولا يزال .
أما السبب الرئيسي في رأي الكاتب هو عدم استعداد العرب إلى ذلك التنوير الذي دافع عنه كل النهضويين العرب مثل رفاعة الطنطاوي وخير الدين التونسي وجمال الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرزاق وطه حسين .
كان العرب غير مستعدين لكل جديد لأنهم ورثة لمواقف أرثوذكسية تشكلت في القرون الوسطى من طرف الفقهاء المتزمتين ومن علماء الكلام مثل الأشعري والغزالي الرافضين لمبدأ السببية ، ومثل ابن تيمية الحنبلي حتى النخاع والسيوطي وابن الصلاح صاحب الفتاوى الشهير ة وصاحب مقولة "من تمنطق تزندق" .
الورقة رقم 18 غي كوك : العلمانية والجمهورية
مؤلف كتاب "العلمانية والجمهورية " : الرابطة الضرورية " هو الباحث غي كوك الفرنسي ، أستاذ الفلسفة وعضو تحرير مجلة "اسبري " أي الروح أو الفكر . يتناول المؤلف موضوع مسألة العلمانية وعلاقة بينها وبين الدولة في ظل النظام الذي يحكم فرنسا بعد سقوط العهد القديم واندلاع الثورة الفرنسية سنة 1789 .ينقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء ، و كل جزء يتفرع إلى عدة فصول بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة .
الجزء الأول مخصص لدراسة مفهوم العلمانية باعتبارها المبدأ المؤسس للمجتمع الفرنسي منذ قرنين أو أكثر . في الماضي كان الدين المسيحي في مذهبه الكاثوليكي هو الذي يشكل المرجعية العليا السياسي ككل . كان الملك الفرنسي يمثل ظل الله على الأرض ، أما بعد الثورة فقد سقطت تلك المرجعية وحلت معها مشروعية من نوع جديد . وهي مشروعية قائمة على فلسفة الأنوار وسيادة الشعب وحقوق الإنسان (156). بمعنى أن المشروعية كانت عمودية أو شالوقية أي نازلة من فوق إلى تحت أو من السماء إلى الأرض ثم أصبحت في عصر الحداثة والعلمانية أفقية أي مستمدة من الشعب وليس من قبل أي قوة عليا خارجة عنه (156) .
أما الجزء الثاني من الكتاب فمكرس لدراسة العراقيل التي اعترضت تشكل النظام الجمهوري العلماني الحديث في فرنسا .
أما الجزء الثالث فهو مكرس للتحدث عن التربية والعلمانية . فنشر العلمانية في صفوف الشعب الفرنسي لم يتحقق فعلا إلا بعد تأسيس المدرسة الإلزامية الحديثة التي تحارب أقوال وأفعال الكهنة عن طريق الأفكار العلمية والفلسفية (156).
في حين يتحدث الجزء الرابع والأخير من الكتاب عن العلاقة بين العلمانية والدين ، وكيف أنها مرت بمرحلتين أساسيتين مرحلة الصراع المباشر في القرن التاسع عشر وحتى أواخر القرن العشرين . ثم المرحلة الحالية التي تدعو إلى تشكيل علمنة منفتحة ، واسعة تقبل بالحوار مع الأديان .
.من الهيكل العام للكتاب إلى بعض التفاصيل .
منذ البداية يقول المؤلف كوك إن فكرة العلمانية تختلط حتى الآن في أذهان معظم الفرنسيين بفكرة العلمانية المتطرفة، والمقصود بها تلك الفلسفة المعادية للدين بشكل عام وللمسيحية بشكل خاص .وهذا أمر طبيعي لأن العلمانية لم تستطع أن ترسخ ذاتها إلا بعد معارك ضاربة ضد المسيحية والكهنة وعموم رجال الدين . ولكن الأمور تغيرت الآن على الرغم من أن هذا التغير لم يصل بعد إلى الجمهور الواسع .
فالعلمانية إذا فهمناها جيدا ليست معادية للدين، بل إنها ترحب بكل الأديان و لا تفضل دين على آخر ولا تعترف بأي دين رسمي للدولة ، مما يعني أن الدولة مستقلة عن كل الأديان الموجودة في المجتمع كما أنها منفصلة عن الكنيسة منذ 1905 لأنها تريد أن تتعامل مع جميع المواطنين على قدم المساواة (157).
ففي العهد القديم كان الكاثوليكي مواطنا من الدرجة الأولى لأنه ينتمي إلى مذهب الأغلبية من الشعب الفرنسي ، وكان البروتستانتي محتقرا ومضطهدا في الوظائف العامة للدولة أو محروما منها في معظم الأحيان لأن مذهبه كان يعتبر مذهب الهراطقة أو الزنادقة . أما بعد الثورة الفرنسية وتشكل النظام الجمهوري الفرنسي فان جميع المواطنين أصبحوا سواسية .
هذا التطور لم يتحقق في المجتمع الفرنسي دفعة واحدة وإنما استغرق القرن التاسع عشر كله لكي يتحقق . ولم يتحقق إلا بعد انحسار تأثير رجال الدين على المجتمع وازدياد تأثير فلسفة التنوير من أمثال فولتير وروسو وديدرو وغيرهم .
الورقة رقم 19 كمال عبد اللطيف : لا يمكن تشكيل فضاء سياسي دون تحرير السياسة من لاهوت القرون الوسطى
الكتاب الذي بين أيدينا " أسئلة للنهضة العربية ، المسكوت عنه في الفكر المعاصر" هو كتاب للدكتور عبد الطيف المغربي وهو عبارة عن مجموعة من مداخلات عديدة ومتفرقة قد ألقاها الكاتب في ندوات فكرية مختلفة في بعض البلدان العربية يقول عنها هاشم صالح إنها تتمتع بوحدة عضوية من خلال الهواجس والإشكالات الأساسية التي تخترق الكتاب منذ البداية حتى النهاية .
ما هي هذه الهواجس وهذه الإشكالات؟
يمكن تلخيصها على النحو التالي : النهضة العربية ابتدأت منذ أوائل القرن التاسع عشر على يد محمد علي ورفاعة الطنطاوي بعد حملة نابليون، ولكنها لا تزال تراوح مكانها في بداية القرن الواحد والعشرين، ولا تزال تطرح نفس الأسئلة وتتخبط في نفس المشاكل . فلماذا ؟ على من تقع المسؤولية ؟ هل على الخارج وعلى الاستعمار فقط أم إنها تقع أيضا علينا نحن بالدرجة الأولى؟ هذه بعض التساؤلات التي يطرحها عبد اللطيف في كتابه المذكور.
في الفصل الخامس من الكتاب يستشهد الكاتب بمقطع للعروي يقول فيه : إذا كانت الدعوة الليبرالية - أي الفكر النقدي العلمي على الطريقة الغربية - قد أخفقت، فان ذلك لا يعني انه ينبغي أن نتخلى عنه ، على العكس ، ينبغي أن نواصل معركة التحرر الفكري مرة أخرى حتى ولو فشلنا مائة مرة .وما لم يستوعب الفكر العربي مكاسب العقل الحديث من عقلانية وموضوعية ونزعة إنسانية ،فانه سيظل متخلفا ، ولن تحل أي مشكلة في العالمين العربي والإسلامي ( 202) .
يقف القارئ مطولا عند سؤال العلمانية الذي طرحه الكاتب في الفصل الثاني من الكتاب وفي فصول أخرى أيضا . فالواقع لا يمكن تشكيل فضاء سياسي حقيقي في أي دولة عربية إذا لم نجد حلا لمشكلة العلاقة بين الدين والدولة ، وإذا لم نحرر السياسة من لاهوت القرون الوسطى (202) .
فالكاتب طبعا يدافع عن قيم التنوير كما دافع قبله النهضوي فرح أنطوان ، هذا الأخير الذي كان يدافع بقوة عن مكاسب فلسفة التنوير التي شكلت مجد الحضارة الحديثة في أوربا (202-203) .
فالعلمانية بدءا من فرح أنطوان أخذت تتبلور كمقابل مضاد للسلفية حتى ولو كانت إصلاحية عن طريق محمد عبده . ومعركة أنطوان مع الشيخ الإمام لا يختلف كثيرا عن معركة شبلي شميل مع جمال الأفغاني حول الفلسفة المادية . يقول عبد الطيف إننا نجد أنفسنا أمام تصورين للعالم : تصور ديني موروث راسخ الجذور في العقلية الجماعية ، وتصور ليبرالي علماني حديث منقول عن أوربا ومحصور بنخبة قليلة جدا من المثقفين ، وربما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة أو اليدين مثل أنطوان وشبلي صاحب المنعطف التي قدمت النظريات العلمية ونظرية داروين بشكل خاص إلى العالم العربي (203). هذه القلة القليلة المتنورة أو قل هذه الكثرة المتكاثرة من السلفيين المتدينين البعيدين كل البعد عن الفكر التنويري والحداثي التي يدافع عنها كمال عبد اللطيف وأنطوان هي أسباب التخلف وعدم تقدم النهضة العربية إلى الأمام . مما فسح المجال للسلفيين تجييش الشارع. .
يقارن الكاتب تجربة رواد النهضة العربية بتجربة النهضة الأوربية . فالنهضة في أوربا التي ابتدأت في القرن السادس عشر واستمرت طيلة القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر لم تستطع أن تحل مشكلة الأصولية المسيحية دفعة واحدة . السؤال لماذا نريد حلها نحن بهذه السرعة؟
يدخل طرح كمال عبد اللطيف ضمن المشروع الذي يدافع عنه محمد أركون الذي يعتبر صلة وصل بين الثقافة التنويرية الأوربية والتراث العربي الإسلامي ، ففي مشروعه يطبق أركون على التراث كل مناهج العلوم الإنسانية لإعادة قراءة الموروث الثقافي العربي والإسلامي مما يستدعي عقلا نقديا تفكيكيا انقلابيا تمرديا .والقطع مع أرثوذكسيات ومواقف فقهاء القرون الوسطى .
الورقة رقم 20 فريد زكريا : الديمقراطية ليست هي الحل
يطرح فريد زكريا سؤالا مخيفا في كتابه"لماذا تبدو الأنظمة العربية الحالية أكثر تقدمية واستنارة من الشعوب التي تحكمها .؟ولماذا لا توجد علاقة أوتماتيكية بين الحرية والديمقراطية" ؟
السؤال الأساسي الذي يطرحه فريد على مدار كتابه هو : هل المزيد من الديمقراطية يؤدي بشكل أوتماتيكي إلى المزيد من الحرية ؟
يتبادر في أذهاننا أن الديمقراطية هي الحل السحري لجميع المشاكل .ولكن المؤلف يبرهن عن طريق الأمثلة العملية المحسوسة على أن الأمور ليست كذلك .فالديمقراطية ليست تعني الحرية بالضرورة .
ولكي يوضح المؤلف الفرق بين الديمقراطية والحرية ، وكيف أن الأولى لا تقود إلى الثانية بشكل أوتوماتيكي ، فانه يضرب عدة أمثلة :
بعد تأسيس الجمهورية في أمريكا ، وجد الآباء المؤسسون أنفسهم أمام معضلة محيرة ، وهي أن أغلبية سكان الولايات الجنوبية يؤيدون استعباد. السود أو نظام الرق .وبما أنهم كانوا مفعمين بمبادئ التنوير والنزعة الإنسانية فإنهم اشمأزوا من هذه الظاهرة ولم يستطيعوا قبولها بسهولة .ولكنهم عرفوا أنهم إذا ما نظموا انتخابات نزيهة _ أي ديمقراطية _ في هذه الولايات فان السكان سوف سينتخبون حثما أغلبية عنصرية في مجلس الشيوخ . فما العمل؟
هل الديمقراطية هي الحل هنا؟ وهكذا نلاحظ أن الديمقراطية لم تكن هي الحل آنذاك بل العكس هو الصحيح .
والآن ما الذي يحصل في العالم الإسلامي ؟ لو نظمت انتخابات حرة ونزيهة لربما وصل إلى سدة الحكم التيار المتشدد المتزمت في معظم البلدان ، وهو التيار الذي يريد تطبيق الشريعة ، أي الحدود البدنية كحد الرجم والجلد وقطع الأيدي والأرجل (214) .
ما الذي حصل عندما نظمت انتخابات حرة في الجزائر عام 1991 ؟
لقد انتصرت الأصولية المتطرفة ممثلة بجبهة الإنقاذ الوطني . وعندئذ قامت الدنيا ولم تقعد لأن الجيش أوقف العملية الانتخابية وصادرها . السؤال ما الذي كان سيحصل لو استلموها ؟هل يمكن السماح بتطبيق وصفات القرون الوسطى؟ ما الحل ؟ ما العمل أمام هذه المعضلة المحيرة ؟
هذا الكلام لا ينطبق على الجزائر فقط ، بل على معظم المجتمعات العربية والإسلامية . لو أجريت انتخابات حرة الآن ، لوصلت أغلبية أصولية إلى السلطة ولحكمت البلاد بالحديد والنار . وبالتالي فالأنظمة السائدة حاليا هي أكثر استنارة وتسامحا وتقدما من معارضاتها الاصولية التي تتأهب للوثوب على السلطة بين لحظة وأخرى (216).
هؤلاء الذين يدافعون عن الديمقراطية بالفعل ينبغي أن يجيبوا عن الأسئلة التالية : هل بعد وصولهم إلى السلطة سيقبلون بتعددية الأحزاب والأفكار وحرية التعبير ؟ هل سيطبقون على العربي المسيحي قانون "آهل الذمة " أم قانون حقوق الإنسان الذي صوتت علية الأمم المتحدة منذ عام 1948؟ هل سيقبلون تفسيرا آخر للإسلام والقرآن غير تفسيرهم الإكراهي ألقسري آم أنهم سوف يفرضون فهمهم المتزمت والقمعي على كل المجتمع ؟ هل سيعترفون بحرية الضمير والمعتقد أم لا ؟
نكتفي بهذه الأسئلة الجوهرية التي تدخل في إطار علاقة الدين والسياسة التي مازالت طبيعتها غامضة إلى حد ألان .
وفي ختام هذه الورقة الأخيرة، نشير أن من سمات هذه الأوراق ، زعزعة القارئ من الداخل ، وقلب يقينيا ته الأكثر رسوخا ، تدفعه لمراجعة نفسه وأفكاره القديمة والبالية . عند قراءته لهذه الأوراق . سيشعر وكأن آفاقه اتسع ووعيه نضج أكثر . يشعر بأنه فهم العالم يشكل أفضل وأوضح . فالأ راق تهدف إلى هدم مما يجب هدمه ، هدم تلك الأرثوذكسيات التي تشكلت في القرون الوسطى على يد الفقهاء المتزمتين بتنظيراتهم وبنقلهم الحرفي ، وبفتاواهم وبتكفيرهم لأن الآخر لا ينتمي إلى فرقتهم الناجية ، فعسى أن تؤدي هذه المساهمة المتواضعة دورها في تغيير بنية العقل العربي الذي مازال شاردا منذ موت ابن رشد ، وماتت معه الفلسفة التي استفاد منه الغرب ولم نستفد منها نحن ،بل خرجنا عن التاريخ بعد أن كفر الغزالي الفلاسفة ، أي تكفير العقل . وها نحن نؤدي الضريبة منذ القرن الخامس للهجرة . فمتى نجدد تلك المواقف وتلك الأرثوذكسيات : أرثوذكسيات لاهوت القرون الوسطى لنصل بالركب الحضاري التنويري - العلمي والفلسفي إلى فضاء آمن – فما أصعب الجمود الفكري وتحجره وتكلسه وتخشبه.
كتب للمؤلف
- نحن والرياضيات . دار القرويين . الدار البيضاء . ط1. 1999
-نحن والرياضيات صوماغرام . الدار البيضاء . ط2. 2006
-أوراق باشلارية. مجموعة مقالات . دار القرويين . الدار البيضاء . ط1. 2000
-علم الهندسة بين العلماء والفلاسفة . من مرحلة التأسيس إلى ما بعد الأزمة . دار القرويين . الدار البيضاء . ط1. 2001.
-جدلية العلم والعقل من منظور ابستمولوجي. دار التوحيدي . الرباط . 2007
-فيتاغورس بين اللاهوت وسمو الرياضات . مطبعة النجاح الجديدة . الدار البيضاء . 2008.
-الرياضيات عند إخوان الصفا . شرح وتعليق . مطبعة النجاح الجديدة . الدار البيضاء . 2008
-دفاعا عن المنطق الأرسطي . مطبعة النجاح الجديدة . الدار البيضاء . 2009.
-جدلية الجبر والهندسة . مدرسة عمر الخيام نموذجا. مطبعة النجاح الجديدة . الدار البيضاء . 2009.
- العرب ومنطق اليونان : من مرحلة الانفتاح إلى مرحلة الجمود( قيد الطبع)
- علماء الرياضيا ت العرب في العصر الوسيط (قيد الطبع )
هذا الكتاب
-فالمقالات التي سنقدمها للقارئ تعتبر خلاصا ت لأهم ما جاء في كتاب الدكتور هاشم صالح التي سنقدمها بدورنا للقارئ العربي على شكل أوراق بشكل مبسط ومختزل لفهم واقع معضلة الأصولية الإسلامية التي تنامت بعد 11 سبتمبر وضربة مدريد وضربة الدار البيضاء .
-عنونا هذه المقالات ب "أوراق تنويرية " لأن لها طابع تنويري، تنوير العقل العربي بمفاهيم وأطروحات تزعزع يقينيان القارئ العربي غير المنفتح ،الذي يعتبر الفرقة المنتمية إليها هي وحدها "الناجية " .
-هدفنا بالدرجة الأولي من هذه الأوراق هو فهم هذه المعضلة الأصولية أولا ، والى محاولة تفكيك ونقد مواقف وأرثوذكسيات فقهاء القرون الوسطى ، تلك المواقف التي يجب تجديدها أو القطع معها إلى حد لا عودة . يصل عدد الأوراق إلى 20 ورقة تنويرية في مجملها.