من الصعوبة بمكان الحديث عن كاتب وهو على قيد الحياة ومازال في حالة من النضج الفكري و المعرفي
،لأن التجربة الكتابية مازالت في حالة إسهاب فكري ومعرفي، ومازال المشهد الثقافي يعرف حراكا فكريا وإبستيميا،في كل يوم يظهر فيه الجديد وتتضح فيه الرؤية الفكرية و البنية الفكرية و المرجعية.وهذا ما يصدق على كاتب في حجم الأستاذ "بوعزة ساهل" الذي أغنى الخزانة المغربية بمجموعة من المؤلفات في مجال الفكر و الفلسفة وخاصة في تيمة من أصعب التيمات وهي الاشتغال على العقل العربي في جانبه العلمي،وبشكل أدق في خاصية الرياضيات .
وقد يتساءل القارئ لهذه الورقة المتواضعة لماذا اختار الكاتب هذه التيمة،فنقول بأن أغلب الكتاب المهتمين بهذا المجال قد كتبوا وبإسهاب في الفلسفة في مختلف فنونها وفروعها،لكن الأستاذ بوعزة ساهل آثر على نفسه أن يشتغل على العقل العربي العلمي وبشكل أدق في الرياضيات،ليست الرياضيات كعلم من العلوم البحثة ولكن الرياضيات باعتبارها آلية من آليات الاشتغال التي لا يمكن أن تصلح وأن تنتج في غياب العقل.
وقد تدرج الكاتب في تتيع هذه التيمة عبر مراحل تاريخية وخاصة في مرحلة النضج الفكري العربي و ازدهار الثقافة العربية وخاصة عند ابن رشد وفي مرحلة متأخرة عند محمد عابد الجابري الذي أسس لمنظور فكري وفلسفي جديد يعتبر نقلة نوعية في تاريخ الفكر العربي المعاصر.
وبما أن ابن رشد اشتغل على المنطق الأرسطي و بحث عن آليات اشتغاله في الثقافة العربية ،كما أشتغل على الفلسفة العربية و الاسلامية وتتبع الاختلافات وأوجه النظر المتصارعة بين المتكلمين و الفلاسفة، إلى درجة أنه تصادم مع تيار فكري شديد التطرف أدى إلى الحكم على ابن رشد بأحكام مسبقة قاسية أدت إلى نفيه وإحراق مؤلفاته.
لكن بحكم انتشار صيته وتبلور فكره الذي تعدى وتخطى الحدود، فإن فلسفته قد لقيت إقبالا وشهرة في المغرب العربي حيث أصبح له طلابه سواء أكانوا طلابا بشكل مباشر أو طلابا عن طريق القراءة أو السماع.
وبما أنه كان لفلسفة أرسطو أثر كبير في فكر ابن رشد فقد كان لفلسفة ابن رشد أثر كبيرعلى كثير من العلماء الذين حافظوا على الارث الرشدي، وكان من بين هؤلاء المفكرين الدكتور محمد عابد الجابري الذي أعاد إحياء العقل العربي وحاول الاشتغال عليه في فترات مختلفة من تاريخ الأمة العربية،فكان لهذا الاشتغال ولهذه الرؤية إلى العقل العربي عاملا محفزا لكثير من المثقفين المغاربة و العرب الذين اهتموا بالعقل العربي في مستويات مختلفة وفي زوايا معرفية متنوعة.
ومن بين هؤلاء الكتاب نذكر "بوعزة ساهل" الذي أصر الاشتغال بجدية على العقل العربي في مراحله التنويرية التي ترفض سلطة الجاهر على سلطة المنطق وخاصة المنطق في أبهى وأجمل مراحله المعرفية، وليس المنطق من منظور فقهي، لأن بوعزة ساهل دائما يميز بين منطق أرسطو القائم على مبدأ الفرضيات ومنطق الفقهاء القائم على مبدأ قياس الحاضر على الغائب وخاصة ما ينعث في الثقافة الاسلامية بمنطق الشافعي.
وكان لثقافة بوعزة ساهل الواسعة و المستفيضة أثر كبير في كتاباته، حيث نرى مدى تأثره بفلاسفة كبار من أمثال الخوارزمي الذي كان مهتما بالرياضيات و بالفلسفة ،كما أنه تأثر كثيرا بفكر ابن خلدون ولهذا نجده مهتمات بدقة التأريخ و الوقف على جزئيات الأحداث و تفصيل الحديث عنها،وقد تبلورت لديه نظرة نقدية شاملة تعتمد على السؤال أكثر من اهتمامها بالجواب.
ولعل اهتمامه بالثرات لدليل كبير على تأثير الفكر الخلدوني على فكر بوعزة ساهل،كما نجد تأثير الفكر الرشدي بارزا في أعماله وأكبر دليل على ذلك هو اشتغاله على تيمة مابعد الرشدية،أي محاولة تطوير جوانب كثيرة ظلت غامضة في الفكر العربي حاول بوعزة ساهل إيضاحها و مقاربته من خلال دراسة العقل العربي في كتبه المختلفة،حيث تتناول فيها تشكل العقل العربي،وشروط بنائه سواء الشرط المعرفية أوالتاريخية،مع تحديد مكوناته الإبستمولوجية، والتوظيف الإيديولوجي له.
أحيانا تتدخل الأقدار في تغيير مسار الانسان ،وقد تبدو للناس صدفة ،لكنها في الحقيقة تتداخل فيها كثير من المعطيات التي تشكل مستقبل الانسان المعرفي وتشكل مسار حياته وتحديد اهتماماته،و الجميل عند بوعزة ساهل أنه كان أستاذا للرياضيات، لكن في لحظة من اللحظات وجد نفسه مهتما بالفكر و الفلسفة،وخاصة في جانبها العملي حيث تتقاطع الرياضيات مع الفلسفة وذلك لاعتمادهما على المنطق و على العقل،ولهذا انزاح فكر ساهل من الاهتمام بانشغالات العقل في مجال التعليم إلى اشتغالاته في مجال الفلسفة ،وليس هذاغريبا لأن هناك كثيرا من الفلاسفة الذين كانت لذيهم انشغالات بالرياضيات وفي وقت من الأوقات وجدوا أنفسهم مهتمين بالفلسفة وعلى رأس هؤلاء الخوارزمي الذي كان مهتما بالرياضيات لكن فيما بعد أصبحت له إسهامات كثيرة وماعددة،فرضتها ظروف عصره لأن ما يجري في الساحة الثقافية غالبا ما يدفع الانسان المثقف إلى الاهتمام بثقافة عصره و الاسهام ولو بجهد يسير في هذا الحراك الثقافي.
ولم يقتصر الأستاذ بوعزة على التأليف في مجال الكتابة الفكرية و الفلسفية وإنما شارك في كثير من الندوات و المحاضرات، وكانت له آراء مختلفة ومتنوعة حول الفكر العربي و حول الثقافة العربية المعاصرة،مشيرا إلى مجموعة من الملاحظات وعلى كثير من المثقفين الذين يتهمهم بأنهم سلبيون، لأنهم يقرؤون دون مناقشة ما يقرؤون مع زملائهم، بل أكثر من هذا فإن جليس الأستاذ ساهل بوعزة ينبغي عليه أن يكون مهتما بالمعرفة وأن يكون ممارسا للفكر،لأنه لا يريد ضياع الوقت في الكلام الفارغ على سير الناس وذكر عيوبهم،فالمثقف العربي كما يرى ينبغي أن يكون مثقفا عضويا لأنه عماد المجتمع وما دام كذلك فينبغي عليه تغيير ما يمكن تغييره وإصلاح ما يمكن إصلاحه.
إن الحديث عن بوعزة ساهل يحتاج إلى وقت طويل لما يحمله هذا الرجل من غموض فكري وعمق في الرؤية تستدعي من المتتبع لمساره الكتابي أن يكون ملما بالمشهد الثقافي عامة وبالثقافة العربية و الاسلامية بشكل خاص،إنه مثقف يهتم بالأسئلة أكثر من اهتمامه بالأجوبة وهذه طبيعة الفكر الفلسفي ،ومن الأسئلة يقف على مكنونات الأجوبة التي تشفي غليل المتلقي.
محمد يوب
21/11/11
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق