الأحد، 29 يوليو 2012

جابريات


نحن ورحيل الدكتور محمد عابد الجابري 

في استجوابه مع أحد القنوات التلفزيونية، قال نجل المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري : «ان والدي لم يمت» ،واستشهد بمؤلفات المرحوم . ونحن نشاطره الرأي . فالأستاذ الجابري لم يرحل ، بل مازال وسيبقى في قلوب قرائه وتلاميذه المباشرين وغير المباشرين . مازال صاحب «نحن والتراث « بين ظهراننا، وفي مكتباتنا الخاصة والعامة ، داخل الوطن وخارجه


تعرفت على المرحوم من خلال مؤلفه «نحن والتراث « الذي يعتبر مدخلا لمشروعه الضخم «نقد العقل العربي « بأجزائه الأربعة . ومن خلاله تعرفت على مدرسة بغداد المنطقية التي كان يتزعمها الفارابي وعلى فلسفة هذا الأخير ، وعلى فلسفة ابن سينا أبي علي الشيخ الرئيس ممثل خراسان ، ومن خلاله تعرفت على صاحب «تدبير المتوحد» (ابن باجة) وعلى صاحب قصة حي وأسال لابن طفيل و على صاحب فصل المقال لأبي الوليد
لكثرة قراءتي لمؤلفاته القيمة ، كنت أوصي زملائي في حالة وفاتي ان يضعوا على رأسي مؤلف «نحن والتراث « ، وعلى يميني مؤلف تكوين العقل العربي و مؤلف بنية العقل العربي ، وعلى شمالي كتاب العقل العربي السياسي وكتاب العقل الأخلاقي العربي لكثرة اهتماماتي بكتابات الجابري رحمه الله. كان له الفضل في تحبيبي لفلسفة العلوم من خلال قراءتي لكتابه «مدخل الى فلسفة العلوم في جزأيه . ومن خلال هدا المدخل تعرفت على مفاهيم جديرة بمعرفتها وخاصة المهتم و بالابستمولوجيا كمفهوم الاتصال والانفصال، ومفهوم القطيعة الابستمولوجية عند باشلا ر. ومفهوم اللاتعين عند هيزنبيرغ ، وعلى نظرية الكوانتا لماكس بلانك ومفهوم الزمكان عند البيرت اينشتين، ومن خلال الجابري تعرفت ان العقل يقبل النقيضين (بوهر =BOHR) حتى أصبحت لدينا كتابات في هدا المجال منها «جدلية العلم والعقل من منظور ابستمولوجي وأوراق باشلارية
كتب المرحوم في جل القطاعات المعرفية ، كتب في الفلسفة (الفارابي وابن سينا و ابن باجة و ابن طفيل و ابن رشد ...) وكتب في علم الكلام ( الشاعرة والمعتزلة، والظهرية ...) وكتب في علم البلاغة (ابن جني والجرجاني والسكاكي ..) وفي التصوف (الجويني والقشيري والغزالي وابن عربي وابن سبعين ...) وكتب في الشرعيات ( الشافعي و الباقلاني ...) وفي القطعيات (ابن حزم والشاطبي ...).
كنت أتساءل لماذا لم يتضمن مشروع الجابري العلوم العربية الدقيقة من رياضيات و حيل وفلك و بصريات ... فوجدت الجواب لاحقا في إحدى الاستجوابات بالمشرق مع المرحوم ( اعتقد بكتاب الحداثة والتراث للجابري)، إذا كان لميشيل فوكو طاقما علميا يقدم له المعطيات حول أحوال الجنون بأوربا وحول الإمراض والمستشفيات لنقده للتراث الأوربي بدءا من القرن السادس عشر للميلاد. فان الجابري يحفر لوحده و ينقب في بنية العقل العربي، كان تحفر ألته الحادة يمينا وشمالا، عموديا وأفقيا، فاستدركت أن الأمر لا يهم الجابري وحده، بل كل غيور على التراث العربي . ، ومن ثم حاولت أن انخرط في المشروع ، وصدر لي أول كتاب بعنوان «نحن والرياضيات « وكان قبله كتاب بعنوان «نحن والعلم « للدكتور سالم يافوت حتى أصبحت الكتب الثقافية التي تحمل عنوان «نحن و... موضة ا لساعة على غرار «نحن والتراث « . 
كيف نستثمر فكر الدكتور محمد عابد الجابري وهو آخر رمز من الرموز التي أنتجته المدرسة الرشدية ؟ كيف نحن بدورنا ان نتعامل مع التراث ؟ فالجابري يقول في جل كتاباته الثقافية ما مفاده : علينا ان نتعامل مع التراث عن طريق الفصل أولا (نقرأه قراءة موضوعية و قراءة معاصرة) ، ثم الوصل ثانيا ، لنأخذ منه ما يجيب عن أسئلتنا (نحن أبناء اليوم) الآنية والمستقبلية (انتهى قول الجابري) لنبق منخرطين في مشروع المدرسة الرشدية ، وفي مشروع المدرسة الجابرية التي تعتبر امتداد للمتن ا لرشدي والباجي وقبلهما متن ابن حزم القرطبي ومتن صاحب اعز ما يطلب .
علينا ان نؤسس سنة (بشدة النون ونصبها) سنويا احتفاء بمناسبة رحيل المفكر الكبير الدكتور محمد عابد الجابري . وتعريفه الأجيال الصاعدة ، كتعريفنا لابن الهيثم والخوارزمي وابن رشد ... كاحتفاء غيرنا من المجتمعات الراقية بعظمائها. 

بعض المنطلقات الأولية لفكر الدكتور محمد عابد الجابري 

في الندوة الفكرية التي نظمتها لجنة تأبين المرحوم الدكتور محمد الجابري بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية يوم 9_6_2010 ، فصل الدكتور حسن حنفي بين يوم التأبين ويوم مناقشة فكر الجابري و قال: إن لكل مقام مقال . وفي هذا السياق،وبدءا من مرحلة تأبين المرحوم أو قبله بقليل بدأ التفكير في مناقشة فكر الجابري من جديد: مضمونه الإيديولوجي ومحتواه المعرفي والتفكير في منطلقاته العلمية والفقهية والسياسية والأسس والمبادئ والمسلمات التي اعتمدها في بناء مشروعه الضخم «نقد العقل العربي «.
ففي هذه الورقة سنتناول تلك المنطلقات والأسس في بعض جوانبها الأولى للجابري وهو في مدينة فجيج أولا ( المفكر ابن بيئته)، ثم بعد انتقاله إلى الدار البيضاء ثانيا.
المنطلق العلمي
كان الجابري رحمه الله يعطي اهتماما بالغا للعلوم: رياضيات وفيزياء خاصة أثناء تحضيره لشهادة الباكالوريا ( المعربة ) . وقبل ذلك، كان ميالا للحساب في السنوات الابتدائية ، كان يقوم بعمليات حسابية بدون «خشيبات « وهو في سن الابتدائي بفجيج . وبعد رحلته لسوريا لإتمام دراسته هناك ، وجد عراقيل في كتابة الأرقام الهندية بدل العربية ( الغبارية ) في المقررات ، مما اضطر في تغيير الشعبة . وبعد عودته إلى المغرب ، درس الفلسفة، ودرسها في المدرجات ،بل كتب في فلسفة العلوم وله مؤلف بعنوان « مدخل إلى فلسفة العلوم « (جزءان). فعقل الجابري عقل رياضي _ أكسيومي ينطلق من أكسيومات ( معطيات ومسلمات) وصولا إلى نتائج معينة بالضرورة.
المنطلق الفقهي
حسب مؤلفه : حفريات في الذاكرة ، يصرح المرحوم انه درس في السنوات الأخيرة من الابتدائي كل من النحو والبلاغة والفقه و الشعر والجرمية و ألفية مالك و حفظ القران وعمره لا يتجاوز السنة العاشرة ، خاصة على يد المرحوم الحاج محمد فرح.
المنطلق السياسي
انخرط الجابري (صاحبنا) بقلبه و وجدانه في الحركة الوطنية وهو مازال صغيرا، متأثرا أولا بالحاج محمد فرح الذي كان له الفضل في غرس شجرة العلم وغرس روح الوطنية بفجيج ( حفريات في الذاكرة . ص83-84)، وهو الذي أنشأ المدرسة المحمدية الوطنية العربية الحرة بفجيج (ن. م. ص84) . كان إماما ومديرا لنفس المدرسة ، وكان مباشرة بعد كل صلاة العصر يعطي دروسا في الحديث والنحو و الفقه و التفسير، وكان صاحبنا من الأطفال الوطنيين الدين يحضرون إلى دروس السيد محمد فرح رحمه الله بالمسجد وعمره لا يتجاوز العاشرة آنذاك. كان محمد فرح من رجالات الحركة الوطنية وله علاقات بشيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي، أبي الوطنية والسلفية النهضوية الحديثة بالمغرب ، وكان والد المرحوم بدوره عضوا نشيطا في الحركة ، يتحرك ما بين وجدة وفجيج عبر مدينة بوعرفة . و تلمذ المرحوم ثانيا وهو في الدار البيضاء على يد المهدي بن بركة وعلى عبد الرحيم بو عبيد وعلى يد عبد الرحمان اليوسفي ومحمد البصري و غيرهم ليس بقليل .
ما علاقة هذه المنطلقات الأولى في فكر محمد الجابري وبمشروعه الضخم «نقد العقل العربي وباهتمامه بالتراث العربي «؟
أولا أن هذه المنطلقات جميعها تتكامل فيما بينها وتختلف في آن واحد على مستوى الرؤية و المنهج ، تتكامل لأنها تعطي لصاحبها القدرة على الوضوح والنظر يمينا ويسارا _عموديا وأفقيا - لمواجهة التحديات التي تواجهه في تعامله مع نفسه ومع الأخر . أما على مستوى الاختلاف : فالمنطلق السياسي ليس دوره التنظير لبناء مدينة فاضلة كمدينة الفارابي فقط ، بل الانخراط في صفوف الجماهير و تعبئة الطبقة العاملة للضغط على الأخر للتنازل وللتفاوض . تلك هي مهمة المثقف العضوي بلغة انطونيو غرامشي والتي كانت تطبع سلوك الجابري رحمه الله .
أما المنطلق الثاني الفقهي إن صح هذا التعبير ، فالجابري لم يكن يفكك «النظام البياني» في كتابه بنية العقل العربي أساسا إن لم تكن له آليات فقهية للتفكيك ، آليات في التفسير وفي الحديث وفي النحو أو في البلاغة...وبلغ مختزلة ، إن لم يكن منخرطا بنفسه في النظام البياني . أما المنطلق الأخير العلمي فهو الذي سمح للجابري الخوض في العلم الأرسطي : علم الطبيعة و الارغانون و الفلسفة الأولى . فهو الذي سمح له الخوض في فلسفة العلوم : ابسمتولجيا وتاريخ العلوم و الميتودولوجيا. وهو الذي سمح له بالوقوف على القيم الابستمولوزجية التي أفرزتها الثورات العلمية الحديثة منها والمعاصرة ، وتوظيفها معرفيا في مشروعه . إلا انه في جميع الحالات تبقى علاقة المنطلق الفقهي بالمنطلق العلمي عند الجابري غير واضحة إن لم نفترض أن أحدهما كان خادما للأخر. وبلغة أخرى هل الجابري كان فقيها (بيانيا ) أكثر مما هو علمي (برهانيا) أم العكس؟ هل كان يريد بناء البيان على البرهان مع إقصاء العرفان على غرار إسلافه المغاربة و الأندلسيين بدءا من ابن حزم وابن رشد مرورا بابن باجة وابن طفيل ؟ نطرح هذه الأسئلة للنقاش ونحن في بداية نقد بعض الأطروحات للجابري من بينها أطروحة العودة إلى الروح الرشدية لعقلانيتها وواقعيتها . هل الرشدية مازالت معاصرة لنا وهي تنتمي الى فلسفة العصور الوسطى؟ الم يمت الجهاز المفاهيمي المعرفي (الابستمولوجي ) لهذه الروح الرشدية مع نهاية القرن الثامن عشر ؟
المرجع
محمد عابد الجابري. حفريات في الذاكرة . دار النشر المغربيةالدار البيضاء. 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأحد، 29 يوليو 2012

جابريات


نحن ورحيل الدكتور محمد عابد الجابري 

في استجوابه مع أحد القنوات التلفزيونية، قال نجل المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري : «ان والدي لم يمت» ،واستشهد بمؤلفات المرحوم . ونحن نشاطره الرأي . فالأستاذ الجابري لم يرحل ، بل مازال وسيبقى في قلوب قرائه وتلاميذه المباشرين وغير المباشرين . مازال صاحب «نحن والتراث « بين ظهراننا، وفي مكتباتنا الخاصة والعامة ، داخل الوطن وخارجه


تعرفت على المرحوم من خلال مؤلفه «نحن والتراث « الذي يعتبر مدخلا لمشروعه الضخم «نقد العقل العربي « بأجزائه الأربعة . ومن خلاله تعرفت على مدرسة بغداد المنطقية التي كان يتزعمها الفارابي وعلى فلسفة هذا الأخير ، وعلى فلسفة ابن سينا أبي علي الشيخ الرئيس ممثل خراسان ، ومن خلاله تعرفت على صاحب «تدبير المتوحد» (ابن باجة) وعلى صاحب قصة حي وأسال لابن طفيل و على صاحب فصل المقال لأبي الوليد
لكثرة قراءتي لمؤلفاته القيمة ، كنت أوصي زملائي في حالة وفاتي ان يضعوا على رأسي مؤلف «نحن والتراث « ، وعلى يميني مؤلف تكوين العقل العربي و مؤلف بنية العقل العربي ، وعلى شمالي كتاب العقل العربي السياسي وكتاب العقل الأخلاقي العربي لكثرة اهتماماتي بكتابات الجابري رحمه الله. كان له الفضل في تحبيبي لفلسفة العلوم من خلال قراءتي لكتابه «مدخل الى فلسفة العلوم في جزأيه . ومن خلال هدا المدخل تعرفت على مفاهيم جديرة بمعرفتها وخاصة المهتم و بالابستمولوجيا كمفهوم الاتصال والانفصال، ومفهوم القطيعة الابستمولوجية عند باشلا ر. ومفهوم اللاتعين عند هيزنبيرغ ، وعلى نظرية الكوانتا لماكس بلانك ومفهوم الزمكان عند البيرت اينشتين، ومن خلال الجابري تعرفت ان العقل يقبل النقيضين (بوهر =BOHR) حتى أصبحت لدينا كتابات في هدا المجال منها «جدلية العلم والعقل من منظور ابستمولوجي وأوراق باشلارية
كتب المرحوم في جل القطاعات المعرفية ، كتب في الفلسفة (الفارابي وابن سينا و ابن باجة و ابن طفيل و ابن رشد ...) وكتب في علم الكلام ( الشاعرة والمعتزلة، والظهرية ...) وكتب في علم البلاغة (ابن جني والجرجاني والسكاكي ..) وفي التصوف (الجويني والقشيري والغزالي وابن عربي وابن سبعين ...) وكتب في الشرعيات ( الشافعي و الباقلاني ...) وفي القطعيات (ابن حزم والشاطبي ...).
كنت أتساءل لماذا لم يتضمن مشروع الجابري العلوم العربية الدقيقة من رياضيات و حيل وفلك و بصريات ... فوجدت الجواب لاحقا في إحدى الاستجوابات بالمشرق مع المرحوم ( اعتقد بكتاب الحداثة والتراث للجابري)، إذا كان لميشيل فوكو طاقما علميا يقدم له المعطيات حول أحوال الجنون بأوربا وحول الإمراض والمستشفيات لنقده للتراث الأوربي بدءا من القرن السادس عشر للميلاد. فان الجابري يحفر لوحده و ينقب في بنية العقل العربي، كان تحفر ألته الحادة يمينا وشمالا، عموديا وأفقيا، فاستدركت أن الأمر لا يهم الجابري وحده، بل كل غيور على التراث العربي . ، ومن ثم حاولت أن انخرط في المشروع ، وصدر لي أول كتاب بعنوان «نحن والرياضيات « وكان قبله كتاب بعنوان «نحن والعلم « للدكتور سالم يافوت حتى أصبحت الكتب الثقافية التي تحمل عنوان «نحن و... موضة ا لساعة على غرار «نحن والتراث « . 
كيف نستثمر فكر الدكتور محمد عابد الجابري وهو آخر رمز من الرموز التي أنتجته المدرسة الرشدية ؟ كيف نحن بدورنا ان نتعامل مع التراث ؟ فالجابري يقول في جل كتاباته الثقافية ما مفاده : علينا ان نتعامل مع التراث عن طريق الفصل أولا (نقرأه قراءة موضوعية و قراءة معاصرة) ، ثم الوصل ثانيا ، لنأخذ منه ما يجيب عن أسئلتنا (نحن أبناء اليوم) الآنية والمستقبلية (انتهى قول الجابري) لنبق منخرطين في مشروع المدرسة الرشدية ، وفي مشروع المدرسة الجابرية التي تعتبر امتداد للمتن ا لرشدي والباجي وقبلهما متن ابن حزم القرطبي ومتن صاحب اعز ما يطلب .
علينا ان نؤسس سنة (بشدة النون ونصبها) سنويا احتفاء بمناسبة رحيل المفكر الكبير الدكتور محمد عابد الجابري . وتعريفه الأجيال الصاعدة ، كتعريفنا لابن الهيثم والخوارزمي وابن رشد ... كاحتفاء غيرنا من المجتمعات الراقية بعظمائها. 

بعض المنطلقات الأولية لفكر الدكتور محمد عابد الجابري 

في الندوة الفكرية التي نظمتها لجنة تأبين المرحوم الدكتور محمد الجابري بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية يوم 9_6_2010 ، فصل الدكتور حسن حنفي بين يوم التأبين ويوم مناقشة فكر الجابري و قال: إن لكل مقام مقال . وفي هذا السياق،وبدءا من مرحلة تأبين المرحوم أو قبله بقليل بدأ التفكير في مناقشة فكر الجابري من جديد: مضمونه الإيديولوجي ومحتواه المعرفي والتفكير في منطلقاته العلمية والفقهية والسياسية والأسس والمبادئ والمسلمات التي اعتمدها في بناء مشروعه الضخم «نقد العقل العربي «.
ففي هذه الورقة سنتناول تلك المنطلقات والأسس في بعض جوانبها الأولى للجابري وهو في مدينة فجيج أولا ( المفكر ابن بيئته)، ثم بعد انتقاله إلى الدار البيضاء ثانيا.
المنطلق العلمي
كان الجابري رحمه الله يعطي اهتماما بالغا للعلوم: رياضيات وفيزياء خاصة أثناء تحضيره لشهادة الباكالوريا ( المعربة ) . وقبل ذلك، كان ميالا للحساب في السنوات الابتدائية ، كان يقوم بعمليات حسابية بدون «خشيبات « وهو في سن الابتدائي بفجيج . وبعد رحلته لسوريا لإتمام دراسته هناك ، وجد عراقيل في كتابة الأرقام الهندية بدل العربية ( الغبارية ) في المقررات ، مما اضطر في تغيير الشعبة . وبعد عودته إلى المغرب ، درس الفلسفة، ودرسها في المدرجات ،بل كتب في فلسفة العلوم وله مؤلف بعنوان « مدخل إلى فلسفة العلوم « (جزءان). فعقل الجابري عقل رياضي _ أكسيومي ينطلق من أكسيومات ( معطيات ومسلمات) وصولا إلى نتائج معينة بالضرورة.
المنطلق الفقهي
حسب مؤلفه : حفريات في الذاكرة ، يصرح المرحوم انه درس في السنوات الأخيرة من الابتدائي كل من النحو والبلاغة والفقه و الشعر والجرمية و ألفية مالك و حفظ القران وعمره لا يتجاوز السنة العاشرة ، خاصة على يد المرحوم الحاج محمد فرح.
المنطلق السياسي
انخرط الجابري (صاحبنا) بقلبه و وجدانه في الحركة الوطنية وهو مازال صغيرا، متأثرا أولا بالحاج محمد فرح الذي كان له الفضل في غرس شجرة العلم وغرس روح الوطنية بفجيج ( حفريات في الذاكرة . ص83-84)، وهو الذي أنشأ المدرسة المحمدية الوطنية العربية الحرة بفجيج (ن. م. ص84) . كان إماما ومديرا لنفس المدرسة ، وكان مباشرة بعد كل صلاة العصر يعطي دروسا في الحديث والنحو و الفقه و التفسير، وكان صاحبنا من الأطفال الوطنيين الدين يحضرون إلى دروس السيد محمد فرح رحمه الله بالمسجد وعمره لا يتجاوز العاشرة آنذاك. كان محمد فرح من رجالات الحركة الوطنية وله علاقات بشيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي، أبي الوطنية والسلفية النهضوية الحديثة بالمغرب ، وكان والد المرحوم بدوره عضوا نشيطا في الحركة ، يتحرك ما بين وجدة وفجيج عبر مدينة بوعرفة . و تلمذ المرحوم ثانيا وهو في الدار البيضاء على يد المهدي بن بركة وعلى عبد الرحيم بو عبيد وعلى يد عبد الرحمان اليوسفي ومحمد البصري و غيرهم ليس بقليل .
ما علاقة هذه المنطلقات الأولى في فكر محمد الجابري وبمشروعه الضخم «نقد العقل العربي وباهتمامه بالتراث العربي «؟
أولا أن هذه المنطلقات جميعها تتكامل فيما بينها وتختلف في آن واحد على مستوى الرؤية و المنهج ، تتكامل لأنها تعطي لصاحبها القدرة على الوضوح والنظر يمينا ويسارا _عموديا وأفقيا - لمواجهة التحديات التي تواجهه في تعامله مع نفسه ومع الأخر . أما على مستوى الاختلاف : فالمنطلق السياسي ليس دوره التنظير لبناء مدينة فاضلة كمدينة الفارابي فقط ، بل الانخراط في صفوف الجماهير و تعبئة الطبقة العاملة للضغط على الأخر للتنازل وللتفاوض . تلك هي مهمة المثقف العضوي بلغة انطونيو غرامشي والتي كانت تطبع سلوك الجابري رحمه الله .
أما المنطلق الثاني الفقهي إن صح هذا التعبير ، فالجابري لم يكن يفكك «النظام البياني» في كتابه بنية العقل العربي أساسا إن لم تكن له آليات فقهية للتفكيك ، آليات في التفسير وفي الحديث وفي النحو أو في البلاغة...وبلغ مختزلة ، إن لم يكن منخرطا بنفسه في النظام البياني . أما المنطلق الأخير العلمي فهو الذي سمح للجابري الخوض في العلم الأرسطي : علم الطبيعة و الارغانون و الفلسفة الأولى . فهو الذي سمح له الخوض في فلسفة العلوم : ابسمتولجيا وتاريخ العلوم و الميتودولوجيا. وهو الذي سمح له بالوقوف على القيم الابستمولوزجية التي أفرزتها الثورات العلمية الحديثة منها والمعاصرة ، وتوظيفها معرفيا في مشروعه . إلا انه في جميع الحالات تبقى علاقة المنطلق الفقهي بالمنطلق العلمي عند الجابري غير واضحة إن لم نفترض أن أحدهما كان خادما للأخر. وبلغة أخرى هل الجابري كان فقيها (بيانيا ) أكثر مما هو علمي (برهانيا) أم العكس؟ هل كان يريد بناء البيان على البرهان مع إقصاء العرفان على غرار إسلافه المغاربة و الأندلسيين بدءا من ابن حزم وابن رشد مرورا بابن باجة وابن طفيل ؟ نطرح هذه الأسئلة للنقاش ونحن في بداية نقد بعض الأطروحات للجابري من بينها أطروحة العودة إلى الروح الرشدية لعقلانيتها وواقعيتها . هل الرشدية مازالت معاصرة لنا وهي تنتمي الى فلسفة العصور الوسطى؟ الم يمت الجهاز المفاهيمي المعرفي (الابستمولوجي ) لهذه الروح الرشدية مع نهاية القرن الثامن عشر ؟
المرجع
محمد عابد الجابري. حفريات في الذاكرة . دار النشر المغربيةالدار البيضاء. 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق